النداء الستون : وجوبُ شكر الله تعالى على نصر المسلمين يوم الأحزاب
النداء الستون : وجوبُ شكر الله تعالى على نصر المسلمين يوم الأحزاب
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} سورة الأحزاب
وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ بِتَقْوَاهُ ، وَبِعَدَمِ الخَوْفِ مِنْ سِوَاهُ ، ذَكَّرَ عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ بِمَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيِْهِمْ مِنْ نِعَمٍ ، وَمِنْ تَحْقِيقِ مَا وَعَدَهُمْ بهِ مِنْ نَصْرٍ ، وَذَلِكَ حِينَمَا جَاءَتْهُمْ جُنُودُ الأَحْزَابِ ، فَأْرْسَلَ اللهُ عَلَيهِمْ رِيحاً كَفَأَتْ قُدُورَهُمْ ، واقْتَلَعَتْ خِيَامَهُمْ ، وأَرْسَلَ إِليهِمْ مَلائِكَةً مِنْ عِنْدِهِ - وَهُمْ جُنُودُهُ ، وَلَمْ يَرَهُمْ المُسْلِمُونَ - يُوقِعُونَ الخَوْفَ والرُّعْبَ والخِذْلاَنَ في نُفُوسِ المُشْرِكينَ ، فَارْتَحلُوا فِي ليلةٍ شَاتِيةٍ شَديدَةِ البَرْدِ ، وَكَانَ اللهُ بَصِيراً بِأَعْمَالِ المُؤْمِنينَ ، وَصِدْقِ نِيَّاتِهِمْ ، فَتَوَلَّى الدِفاعَ عَنْهُمْ .
وَقِصَّةُ الأَحْزابِ كَمَا رَوَتْها كُتُبُ السِّيرَةِ كَانَتْ كَمَا يَلِي : إِنَّ نَفَراً مِنْ يَهُودِ المَدِينةِ جَاؤُوا إِلى قُرَيشٍ في مَكَّةَ ، فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ لِلْهِجْرَةِ يُحَرِّضُونَ المُشْرِكِينَ عَلى حَرْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ جَاؤُوا إِلى قَبَائِل غَطْفَانَ وَقَيْسِ عَيْلاَنَ وَأَسَدٍ وَحَالَفُوهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ عَلى الرِّسُولِ والمُسلِمينَ يَداً واحِدةً ، فَخَرَجَتْ هذِهِ القَبَائِلُ إِلى المَدِينَةِ .
وَلَمَّا عَلِمَ الرَّسُولَ بِمَسِيرِهِمْ إِليهِ ، اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ ، فَأَشَارَ عَليهِ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ بِحَفْرِ خَنْدَقٍ حَوْلَ المَدِينَةِ يُسَاعِدُ المُسْلِمينَ فِي مَنْعِ تَقَدَّمِ المُشركِينَ إلى دَاخِلها ، فَقَامَ المُسْلِمُونَ بِذَلِكَ . وَلَمّا وَصَلَتِ القَبَائِلُ المُتَحَالِفَةُ إلى المَدِينةِ وَجَدُوا الخَنْدَقَ ، فَحَاصَرُوا المَدِينَة ، وَنَشِبَتْ مُنَاوشَاتٌ بينَ المُسْلِمينَ والمُشْرِكينَ . وَفي أثناءِ الحِصَارِ نَقَضَ بَنُو قُرَيْظَةَ عَهْدَهُمْ مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ، بِمَسْعَى مِنْ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ سَيِّدِ يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ الذِينَ أجْلاَهُمُ الرَّسُولُ إِلى خَيَبَر ، فَشَّقَّ ذلكَ على المُسْلِمِينَ .
ثُمَّ جَاءَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَهُوَ مِنْ غَطْفَانَ ، إِلَىرَسُولِ اللهِ يُعْلِمُهُ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَنَّ قَوْمَهُ لاَ يَعْلَمُونَ بإِسْلاَمِهِ ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِمَا يَرَى فِيهِ ، المَصْلَحَةَ لِلمُسْلِمِينَ . فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ إِنَّما أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ ، والحَرْبُ خُدْعَةٌ فَخَذِّلْ عَنَّا مَنِ اسْتَطَعْتَ ، فَذَهَبَ إِلى بَنِي قُرَيْظَةٍ - وَكَانَ يُخالِطُهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ - فَقَالَ لَهُمْ : لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ قُريشاً وَمَنْ مَعَها مِنَ القَبَائِلِ لَيْسَ لَهُمْ مُقَامٌ فِي المَدِينَةِ ، وأَنَّهُمْ إِذا مَا عَضَّتْهُمُ الحَرْبُ انْسَحَبُوا إِلى بِلادِهِمْ ، وَتَبْقَوْنَ أَنْتُم وَحْدَكُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ ، وَأَنْتُمْ لاَ قِبَلَ لَكُمْ بِهِ وَحْدَكُمْ ، وَالرَّأيُ أَنْ تَطْلُبُوا رَهَائِنَ مِنْ هذِهِ القَبَائِلِ التِي تُحَاصِرُ المَدِينَةَ لِكَيْلا يَنْسَحِبُوا وَيَتَرَاجَعُوا عَنْ قِتالِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ القَضَاءِ عَلَيْهِمْ ، فَفَعَلُوا .
وَذَهَبَ إلى قُرَيشٍ وَغَطْفَانَ وَالقَبَائِلِ الأُخْرَى يَقُولُ لَهُمْ إِنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ نَدِمُوا عَلَى نَقْضِ عَهْدِهِمْ مَعَ مُحَمَّدٍ ، وَإِنَّهُمْ وَعَدُوهُ بِأَنْ يُسَلِّمُوهُ وُجُوهَ القَبَائِلِ لِيَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ ، عَلَى أَنْ يَعُودَ الَعهْدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ إِلى مَا كَانَ عَلَيهِ مِنْ قَبْلُ . فَدَبَّ الخِلافُ والخِذْلانُ ، وَسَادَ التَّشَكُّكُ بَيْنَ القَبَائِلِ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَاسْتَشْعَر كُلُّ فَريقٍ الحَذَرَ مِنَ الآخَرِ .
وفِي لَيلَةٍ شَاتِيةٍ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدةٌ بَارِدَةٌ أَخَذَتْ تَكْفَأُ القُدُورَ ، وَتَقْتَلِعُ الخِيَامَ ، فَنَادَى أَبُو سُفَيَانَ بِالرَّحِيلِ في النَّاسِ فَارْتَحَلُوا .
حِينَ جَاءَتْكُمْ الأَحْزَابُ مِنْ أَعْلَى الوَادِي ( مِنْ جِهَةِ المَشْرِقِ ) ، وَمِنْ أَسْفَلِهِ ( مِنْ جِهَةِ المَغْرِبِ ) ، وَحينَ زَاغَتِ الأَبْصَارُ واضْطَرَبَتِ الرُّؤيةُ مِنَ الخَوْفِ والفَزَعِ الذي اعْتَرى المُسْلِمينَ ، وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ ( وَهُوَ تَعْبيرٌ عَنِ الضِّيقِ وشِدَّةِ الخَوْفِ وَالفَزَعِ واليَأْسِ الذي اعْتَرَى المُسْلِمِينَ ) وَنَشَطَ المُنَافِقُونَ يُرْجِفُونَ في المَدِينةِ ، وَيُثِيرُونَ الشُّّكُوكَ بالإِشَاعَاتِ الكَاذِبَةِ المُثَبِّطَةِ التِي كَانُوا يَنْشُرُونَها لإِضْعَافِ ثِقةِ المُؤْمِنينَ بِأَنْفُسِهِمْ ، وَبِقُدْرَتِهِمْ عَلى القِتَالِ ، حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ ضِعَافِ النُّفُوسِ والإِيمَانِ أَنَّ الأًَحزَابَ سَيَسْتَأْصِلُونَ شَأْفَةَ المُسْلِمينَ . وَقَالَ مَعْتِبُ بَنْ قُشَيْرٍ : كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ ، وأَحَدُنا لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَذْهَبَ إِلى الغَائِطِ .
أَمَّا المُؤمِنُونَ المُخْلِصُونَ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمُ اللهُ وَرَسُولَهُ حَقٌّ ، وَأَنَّ الله سَيَنْصُرُ المُسْلِمِين ، وَسَيَنْصُرُ دِينَهُ وَيُظْهِرُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ .
وَفِي ذَلِكَ الحِينِ امْتَحَنَ اللهُ المُؤْمِنينَ وَمَحَّصَهُمْ أَشَدَّ التَّمْحِيصِ ، فَظَهَرَ المُخْلِصُ الرَّاسِخُ الإِيمَانِ ، مِنَ المُنَافِقِ المُتَزَلْزِلِ ، واضْطَرَبُوا اضْطِراباً شَديداً مِنَ الخَوْفِ الذِي أَصَابِهُمْ .
ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ - اخْتُبِرُوا بالشَّدَائِدِ وَمُحِّصُوا .
---------------
إنها صورة الهول الذي روع المدينة ، والكرب الذي شملها ، والذي لم ينج منه أحد من أهلها . وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب . من أعلاها ومن أسفلها . فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب؛ وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب ، وظنها بالله ، وسلوكها في الشدة ، وتصوراتها للقيم والأسباب والنتائج . ومن ثم كان الابتلاء كاملاً والامتحان دقيقاً . والتمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسماً لا تردد فيه .
وننظر اليوم فنرى الموقف بكل سماته ، وكل انفعالاته ، وكل خلجاته ، وكل حركاته ، ماثلاً أمامنا كأننا نراه من خلال هذا النص القصير .
ننظر فنرى الموقف من خارجه : { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم } . .
ثم ننظر فنرى أثر الموقف في النفوس : { وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر } . . وهو تعبير مصور لحالة الخوف والكربة والضيق ، يرسمها بملامح الوجوه وحركات القلوب .
{ وتظنون بالله الظنونا } . . ولا يفصل هذه الظنون . ويدعها مجملة ترسم حالة الاضطراب في المشاعر والخوالج ، وذهابها كل مذهب ، واختلاف التصورات في شتى القلوب .
ثم تزيد سمات الموقف بروزاً ، وتزيد خصائص الهول فيه وضوحاً : { هنالك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً } . . والهول الذي يزلزل المؤمنين لا بد أن يكون هولاً مروعاً رعيباً .