اليسر بين الإفراط والتفريط
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:- فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. إنني لأشعر بسعادة غامرة وأنا أجلس بين ظهرانيكم في هذا البلد الكريم، الذي طالما تشوقت إلى لقاء أهله، وإلى لقاء إخواني في الله تعالى في هذا البلد، فالحمد لله الذي يسَّر هذا، في هذه الليلة المباركة ليلة الخميس، الثالث عشر من شهر ذي القعدة لعام (1412هـ) وعنوان هذه المحاضرة -أيها الأحبة- هو آية من كتاب الله تعالى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]. وإنما رغبت في الحديث عن هذا الموضوع، موضوع أن الدين كله موصوف بأنه يسر، لأن هذه الكلمة أصبحت في نظر كثيرين كلمة مطاطة، فأصبح الواحد منهم من الممكن أن يصنع كل شيء، ويرتكب كل مخالفة، فإذا وجد من يمنعه أو يردعه أو ينكر عليه قال له: يا أخي! ما بك؟ قال: الدين يسر. فاتخذوا من هذه الكلمة ذريعة إلى ارتكاب حرمات الله تعالى، وتعدي حدوده، بحجة أن الدين يسر. وفي المقابل نجد أن آخرين -وهذا واقع أيضاً- يقولون فعلاً: الدين يسر، ولكن هذه الكلمة تحولت عندهم إلى مجرد شعار غير قابل للتطبيق، فهو يوافق نظرياً على أن الدين يسر، لكن عندما تأتي إلى سلوكه العملي في حياته الشخصية، وفي معاملته لأهله، وفي عمله وفي دعوته وفي تعليمه وفي فتواه وفي أي عمل من الأعمال أو أمر من الأمور؛ لا تجد هذا اليسر الذي وصف به الدين، فهو يصف الدين باليسر إجمالاً، ولكنه لا يدخل هذا اليسر في التفصيلات، ولذلك ينال الناس من هذا حرجٌ شديد. فأحببت أن أحاول من خلال النص القرآني والنص النبوي، أن أمسك العصا من الوسط -كما يقال- وأن أجعل القرآن والحديث هادياً لنا في هذا الطريق، حتى نعرف كيف كان الدين يسراً، وما هي مجالات اليسر لهذا الدين.
ويقرأ المسلم -أيضاً- قول الله عز وجل: وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً [الكهف:88] فاليسر مصاحب للإيمان وللعمل الصالح، ولهذا تجد حياة المؤمن تيسيراً كلها، كلما طرق باباً فٌتِحَ له، لأنه يطرق الباب بقوة الله عز وجل، ويطرق الباب متوكلاً على الله، وهو يعلم أن الأمور كلها بيد الله، فيطرقه برفق وبهون، فحيثما توجه تجد أنه يتوجه بيسر، وإذا أراد أن يبحث عن وظيفة، أو عن عمل، أو عن دراسة، أو عن زوجة، تجد أنه يسير بهدوء ويفعل الأسباب، ولكن قلبه مستقر في صدره. لأنه يعلم أن الأمور كلها بيد الله، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن القضاء والقدر نافذٌ لا محالة، ولكنه متعبد بفعل السبب، فيفعل السبب وكله ثقة بالله، فإن أجرى الله هذا الأمر فرح به وسُر، وقال: شكراً لك يا رب.
وإن امتنع رضي أيضاً، وقال: شكراً لك يا رب.
فربما كان الخير فيما منعه الله تعالى منه قال تعالى: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19] وقال أيضاً: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216]