"بعثة التجديد" دراسة في المفهوم


الشيخ/ فريد الأنصاري

المقال مترجم الى : English


 يرد مفهوم (البعث) في القرآن والسنة بمعنيين اثنين: الأول هو بمعنى إحياء الموات،

 كما في قوله عز وجل:  (فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ)

(البقرة:259)

وقوله سبحانه: (وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ. بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)

(النحل:38)

وقوله أيضا: (وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ)

(الحج:7)

  فالبعث هنا فعل قدري تكويني يرجع إلى إرادة الله جل وعلا بإحياء الميت، وتجديد الحياة فيه؛ ليخرج من عالم الفناء إلى عالم البقاء، أو من دائرة العدم إلى دائرة الوجود.


 ولا يكون البعث – بهذا المعنى – إلا بعد حياة سابقة يعقبها موت؛ لما لمعنى (البعث) من دلالة على إعادة الحياة إلى من فقدها، وليس بمعنى نفخ الحياة ابتداءً. فهذا إنما هو (خلق ). وأما البعث فهو: (إعادة خلق )، كما هو مفهوم من النصوص السابقة،

وفي قول الله أيضا، في حق عيسى عليه السلام: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)

(مريم:15).


 وأما المعنى الثاني لمفهوم (البعث) فيرجع إلى معنى (الإرسال). 

وهو: تكليف الرسل بوظيفة البلاغ.

كما في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)

(القصص:59)

،

وقوله سبحانه: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)

(الإسراء:15)،

وقوله جل وعلا: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِه)

(الأعراف:103).

ونحو هذا وذاك في القرآن كثير.

 فالبعث: هنا يرجع إلى معنى تكليفي، وأمر تشريعي تعبدي. بينما هو في الأول راجع إلى  أمر قَدَرِي تكويني. إلا أن هذا المعنى الثاني يستصحب المعنى الأول من الناحية السيميائية، فلا يمكن تجريد اللفظ من إيحاءاته الإحيائية، فكأنما ورود المبعوث على الأمة الضالة نوع من الغيث يحيي منها الموات، ويبعث فيها الحياة! ومن هنا كان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)(1)؛ تعبيرا جامعا لكل تلك المعاني، فهو دال بالأصالة على تجديد البعثة بالمعنى الإرسالي، أعني إرسال العلماء لا الأنبياء. وليس هو ابتداء وحي، وإنما هو تعليم وحي إعادةً وتجديداً. وهو دال بالتبع على معنى الإحياء. فبعْثُ المجددين إنما هو إحياء للأمة، ونفخٌ لروح القرآن فيها من جديد، حتى تعود إليها الحياة، وتنخرط من جديد في صناعة التاريخ! ومن هنا كان (العلماء ورثة الأنبياء)(2) كما صح في الحديث. هذا المعنى العظيم تؤكده بصائر القرآن العظيم، وبشائر السنة النبوية، وحركة التاريخ!

 


 ولا تكون البعثة - بناء على ذلك - إلا عملية جذرية شاملة وعامة، سواء رجعت في البدء إلى شخص واحد، أو إلى عدة أشخاص، على الخلاف في تأويل معنى لفظ (مَن) الوارد في الحديث: (من يجدد لها دينها)، أهو دال على المفرد أم على الجمع؟  قلت: هو في جميع الأحوال آئل إلى الجمع، حتى ولو حملناه على المفرد. أعني حتى ولو كان المنطلق التجديدي فردا. ألا ترى أن أصل البعثة النبوية في هذه الأمة إنما هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبي واحد خاتم، ولكن مظاهر بعثته صلى الله عليه وسلم تجذرت في جيل كامل من الصحابة رضي الله عنهم. تلك هي الموجة الأولى من البعثة الأولى،  حملت دفعة الوحي قوية، تحيي الموات في الأرض.



ثم كانت بعد ذلك موجات متفرعة عنها. هي منها وإليها، وهي بعثات التجديد التي حصلت في التاريخ. إذ شهد جيل التابعين الكبار والصغار، ومن عاصرهم من أتباعهم أول عملية للتجديد، في أواخر المائة الأولى وبداية الثانية، من أمثال سعيد بن جبير (ت:95هـ)، ومجاهد بن جبر (ت:104هـ)، وعامر الشعبي (ت:107هـ)، والحسن البصري (ت:110هـ)، وقتادة بن دعامة السدوسي (ت:117هـ) … إلخ. وغيرهم كثير، ممن كانوا جيل التجديد الأول بعد جيل الصحابة، حيث نشروا العلم، وربوا الأمة، وبنوا أصول مدارس العلم واتجاهاته، قبل تبلورها على أيدي جيل فقهاء الأمصار الكبار، الذين مثلوا بعثة التجديد للمرحلة الثانية، ولدورة جديدة من دورات التاريخ، من أمثال أبي حنيفة النعمان (ت:150هـ)، وعبد الرحمن الأوزاعي (ت:157هـ)، والليث بن سعد (ت:175هـ)، ومالك بن أنس (ت:179هـ)، وعبد الله بن المبارك (ت:181هـ) ومحمد بن إدريس الشافعي (ت:204هـ)، وغيرهم .

 


وهكذا عرف جيل القرن، عند النصف الثاني من كل قرن حتى نهايته، أو عند النصف الأول من القرن حتى أواسطه، بعثة تجديد الدعوة، من جوانب متعددة. منها ما يتعلق بالدين أصالة ، ومنها ما يتعلق به تبعا. فقد شهدت بداية القرن الثامن مثلا؛ دعوة شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية(ت:728هـ)، ومدرسته التجديدية، من تلامذته المشهورين كابن القيم وغيره، كما شهدت نهاية القرن بعثة أبي إسحاق الشاطبي(790هـ) بالأندلس من الغرب الإسلامي، ومعه جيل من المجددين المعاصرين له، في ميادين شتى، كعبد الرحمن بن خلدون الإشبيلي(ت:808هـ) في تجديد علم التاريخ وفقه العمران البشري مثلا …إلخ .

 


 إن القول بفردية المجدد، وحصر بعثة التجديد فيه؛ إنما هو نوع من التحكم، أو التعصب المذهبي ليس إلا! وكذلك التفسير الحرفي لـ(رأس المائة) من كل قرن بسنة محددة عينا هو أيضا سوء فهم؛ لأن حركة التاريخ لا تكون وليدة سنة أو سنتين، بل هي نتاج عمر كامل! وإنما قد تبرز ثمارها بشكل واضح مع مطلع هذه السنة بالتحديد، أو تلك. ذلك أن نضج الإنسان ونشاطه التجديدي إنما يكون على امتداد جيل، أي على نحو ثلاثين أو أربعين سنة، وليس مختزلا في سنة واحدة! وإنما يفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوزان.  فبعثة التجديد من قوله صلى الله عليه وسلم: (على رأس كل مائة سنة)؛ قد تنطلق قبل تمام القرن بسنة، أو سنتين، أو ثلاث، وقد تتأخر عن ذلك بنفس المقدار، مع مراعاة سائر الاحتمالات الممكنة في تحديد بداية العد، مما سنذكره بعد قليل، مادام المقصود أن الجيل المجدد للقرن - الذي قد يولد في أواخر القرن الماضي أو نهايته، أو في بداية القرن الجديد - هو حامل رسالة التجديد، وهو موضوع البعثة الحامل لرسالتها.

 


 ثم بعد هذا وذاك، كيف بدء العد لتمام المائة سنة عدداً؟ ما هو رأس القرن الذي عليه مدار ظهور بعثة التجديد؟ هل هو بدء انطلاق دعوة المجدد السابق؟ أم هو نهايته ووفاته؟ أم هو مضي مائة سنة على لحظة الانتكاس والانهيار الذي يتطلب التجديد؟ تلك أسئلة كلها واردة ومحتملة. وأغلب العلماء إنما عدوا قديما (مائة التجديد) بالعد الهجري، وليس من تاريخ بدء البعثة النبوية، أي من يوم نزول ( اقرأ )، وهو إمكان محتمل أيضا، ولا من سنة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أيضا ممكن محتمل أيضا، حيث يبدأ النسيج الاجتماعي الديني في البلى شيئا فشيئا، حتى يبعث جيل التجديد عند نهاية القرن من ذلك التاريخ. وإنما كان العد – كما ذكرت – من عام هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو راجح أيضا؛ لأنه صُلْبُ عهدِ البعثة النبوية، ومنعطف التاريخ لبدء التمكين للدعوة الإسلامية الأولى؛ دينا ودولة في الأرض!


والعبرة في ذلك كله إنما هو بما يقربنا من تحقيق مناط الحديث - في زماننا هذا - على أقرب مَعَادٍ، يمكن الاستناد إليه في تبين ملامح بعثة التجديد المقبلة. فنقول بحول الله:

 


إذا نظرنا إلى بعثة التجديد السابقة في جيل القرن الماضي، أي القرن الرابع عشر الهجري وجدنا أنه قد شهدت بدايتُه إلى أواسطه  حركةً شاملة، ونهضةً عامة، مع ظهور جيل الشيخ رشيد رضا، والإمام حسن البنا، وسيد قطب في مصر، والشيخ محمد إلياس في الهند، والأستاذ أبي الأعلى المودودي في الباكستان، وبديع الزمان النورسي في تركيا، والشيخ الطاهر بن عاشور في تونس، والإمام عبد الحميد بن باديس في الجزائر، والشيخ أبي شعيب الدكالي في المغرب...إلخ، مع تلامذتهم جميعا، كلهم شكَّل بعثة التجديد لجيل كامل من العلماء المنتصبين للدعوة.

 


 وبالعد الميلادي كان ذلك خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهي فترة شهدت أحداثا مهمة جدا بالنسبة للعالم الإسلامي، فقد كان عهد اكتساح الاستعمار الأروبي، وإسقاط الخلافة الإسلامية العثمانية، وتوزيع تركة الرجل المريض. ثم إنشاء الكيان الصهيوني بفلسطين! كل ذلك كان مرحلة من سنة الله في التاريخ؛ لإنضاج بعثة التجديد، التي قاومت ظلمات الاحتلال الأروبي، ثم امتدت بعده لتصفية آثاره، على المستويات الفكرية والعقدية والاقتصادية والسياسية ... إلخ .

 


ولحد الآن لم يتكرر جيل من حجم جيل حسن البنا، وسيد قطب، وعبد القادر عودة، وسعيد النورسي، وأبي الأعلى المودودي، ومحمد إلياس، ومحمد إقبال، وابن عاشور، وأمثالهم بهذا الاجتماع، وبهذا التتابع والتكامل! ظهر أفراد هنا وهناك ولكن لم يصنعوا بعثة من جيلهم، بقدر ما كانوا امتدادا فكريا أو تنظيميا - وفي بعض الأحيان حَرفيا - لجيل البعثة السابق، ليس إلا!


وأحسب أن الزمان قد دار دورة أخرى! وأن بعثة جيل الاستعمار الأول قد استنفدت أغراضها، من حيث تأثيرها التجديدي، كما أن التحديات قد اختلفت وتغيرت، وتعقدت، كما أن طبيعة المعركة صارت لها أبعاد أخرى!


 ويمكن أن نعتبر تاريخ إسقاط الخلافة الإسلامية: (1343هـ/1924م) وانطلاق دعوة الإمام حسن البنا رحمه الله – بعد أربع سنوات فقط من ذلك التاريخ! – أي حوالي سنة: 1347هـ/1928م، وكتابة النورسي لأول رسائله التجديدية في السنة نفسها! دون معرفة أحدهما بالآخر! وما صاحب ذلك من حركات  واجتهادات مشابهة في العالم الإسلامي، عجميه وعربيه، مما ظهر في نفس الفترة تقريبا من السوابق واللواحق، كل ذلك كان مؤشرا على أن البعثة التجديدية، كانت في عنفوان موجتها القوية آنئذ، من مصر إلى المغرب ومن تركيا إلى الهند. وكل ذلك أيضا كان عبارة عن دورة تجديدية واحدة، ذات طابع واحد في أسبابها وأغلب مظاهرها.

ومن هنا؛ فإنه يستقيم إلى حد بعيد أن نبني عليه في عد المائة التجديدية؛ لِمَا نحن مقبلون عليه بحول الله – كأمة - خلال القرن الخامس عشر الهجري.


والقراءة لظروف العالم الإسلامي اليوم، كما هي بادية من أحداث مرحلتنا التاريخية هذه، بآلامها وآمالها - ونحن نمضي نحو أواسط القرن الخامس عشر الهجري، في اتجاه إتمام المائة سنة على بدء دورة التجديد السابقة - تثبت أننا على أبواب تحولات جديدة، هي في تاريخ العالم قد بدأت بالفعل، إذ يمكن اعتبار سقوط الاتحاد السوفياتي، وتفرد الهيمنة الأمريكية الصهيوينة على العالم أحد مؤشراتها، كما لا يمكن – في هذا الصدد – إغفال الاتجاه الوحدوي الأروبي، والتقاربات الوثنية الصهيونية، وكذا الانهيار العربي الفظيع ومقولاته السياسية والقومية، والإبادات الجماعية لشعوب العالم الإسلامي في كل مكان! ثم عجز الحركات الإسلامية في العالم – غالبا – عن مواكبة التحولات العالمية الجديدة، وإصرارها على المنهج السياسي التقليدي في النقد والاحتجاج، هذا المنهج الذي ورثت أغلب تقنياته التنظيمية والحركية؛ عن الأحزاب السياسية العلمانية البائدة، التي نشأت في ظل الاستعمار وبُعَيْدَه، ولم يبق لها اليوم في واقع الناس إلا ظلال باهتة، هي أشبه ما تكون بأطلال الماضي!لم تستطع الحركات الإسلامية في الغالب أن تخرج من جبة الحزب السياسي، ونموذجه النضالي الدخيل! وإن ادعت أنها تفارقه وترفضه، فإنما هي صورة تقليدية له، إما بصورة اجتماعية، أو - في بعض الأحيان - بصورة حرفية!


   تعلقت الحركات الإسلامية التقليدية بعقدة الأنظمة الحاكمة، ومشكلة الديمقراطية في العالم الإسلامي، وضخمتها إلى درجة التقديس العَقَدِي!  فانحصرت آفاقها في دائرة الفعل السياسي الجزئي، وتاهت في جزئيات الحدث اليومي الذي لا يعرف قرارا ولا استقرارا.

        

وأحسب أن التاريخ الجديد بمعطياته الحاضرة، وبملامحه المستقبلية؛ قد تجاوز هذه المشكلات جميعا! فلم تعد الأنظمة الحاكمة تملك شيئا على الحقيقة، وباشر الاستعمار العالمي اليوم، في الصورة الأمريكية الصهيونية قمع الشعوب بنفسه، وبدون أي وكالة من هذا النظام أو ذاك!

 


ثم امتدت الآلة الإعلامية والثقافية والاقتصادية؛ لتستعمر الإنسان المسلم، في أخص خصائصه الوجدانية والعقدية والاستهلاكية؛ ليعيش على النمط الأمريكي، أو يسعى إلى ذلك. حتى صار على استعداد - في بعض الأحيان وفي بعض الأوطان - للتضحية بكل مقدساته من أجل ذلك! والآلة الاستعمارية الشمولية الجديدة، متمثلة في الكتلة الأمريكية/الصهيونية منهمكة في حرب شاملة؛ لتذويب الباقي والشارد من الشعوب الإسلامية؛ في هالوك (العولمة)، أو (حركة تهويد العالم)! هذه أشياء نشاهدها على مرأى ومسمع من العالم، وهي اليوم أظهر من أن تحتاج إلى دليل!([3])



لقد تمكن الاستعمار القديم من الأوطان، فقامت عليه بعثة تجديد مجاهدة، مناسبة لفجوره وبجوره! فحاربت وجوده العسكري والإيديولوجي بعد ذلك بشتى الوسائل. بيد أن الاستعمار الجديد تمكن من الإنسان قبل أن يتمكن من الأوطان! فاقتحم جسور البلاد بالشهوات قبل أن يقتحمها بالمدرعات والدبابات! ففقدت الشعوب الإسلامية قوتها على الصمود أمام الإغراء العولمي، وفقدت نمط عيشها وطرائق استهلاكها، واحتوتها الفلسفة الأمريكية الشهوانية احتواء كليا إلا قليلا!

نعم إنهم معارضون لأمريكا، لكن بمعنى أنهم يكرهون ظلمها فقط، لا بمعنى الكفر بوثنيتها وتألهها اللبيرالي، ورفض منهج حياتها، وطبيعة عيشها. ومن هنا كان نقدهم لها عمليةً تقويمية جزئية، من داخل بنيتها، ومن خلال نمطها، لا من خلال منظومة القرآن العظيم، ولا من خلال مقومات الشخصية الإسلامية المستقلة الأصيلة!


ومن هنا فإن بعثة التجديد المقبلة مدعوة إلى تحرير  الإنسان قبل تحرير السلطان! وإلى تحرير الوجدان قبل تحرير الأوطان! ولقد رأينا كيف أن أحزاب المقاومة للاستعمار القديم في كثير من البلاد العربية والإسلامية، لما تخلصت من هيمنته العسكرية والإدارية المباشرة؛ خلفته في شعوبها بكل ألوان الفسوق والعصيان، وإعلان التمرد على شريعة الرحمن! وليس معنى هذا أنه يجب علينا أن نهادن الاستعمار الجديد، كلا! بل تجب مقاومته! ولكن على أن يؤسس ذلك كله على البناء العقدي والجهاد التربوي. إننا في حاجة إلى تنـزيل جديد للقرآن؛ لكن هذه المرة ليس وحيا من السماء، فمحمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - قد ختم بعثة الرسل. وإنما التنـزيل الجديد: هو قدحٌ لحركة التداول الاجتماعي للقرآن! وذلك بأن ينطلق أهل البعثة التجديدية بآياته وحقائقه في المجتمع؛ تبصراً وتبصيراً، وتدبرا وتدبيرا، في دعوة تربوية بنائية شاملة([4]).


 لقد كان الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم في اللحظات الأولى من نزول القرآن عليه؛ في حاجة إلى الإيمان بنفسه أولا، وهذه قضية مهمة سنحتاج إليها قريبا، ألم تر أنه خوطب – كما في الحديث المتفق عليه -  بقوله تعالى : (اقرأ)! فكان جوابه مكررا بتكرار الأمر: (ما أنا بقارئ!) حتى قال – في سياق قصة هذا الحديث نفسه- لزوجه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها:

(أي خديجة! ما لي؟ لقد خشيت على نفسي!)

فجعلت تواسيه وتطمئنه حتى ذهب عنه الروع، ثم ذهبت به إلى ورقة بن نوفل وكان عليما بالإنجيل، يستفسرانه عن حاله صلى الله عليه وسلم وطبيعة ما يراه عليه الصلاة والسلام؟([5])

وقد ورد في الصحيحين أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بَيْنَا أنَا أمشي إذْ سمعتُ صوتا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملَك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فَرُعِبْتُ منه، [وفي رواية أخرى للشيخين أيضا: فَجُئِثْتُ منه حتى هويتُ إلى الأرض!] فرجعتُ فقلت: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي! فأنزل الله تعالى: "يا أيها الْمُدَّثِّرُ قُمْ فأنْذِرْ - إلى قوله - والرِّجْزَ فَاهْجُرْ!"، فَحَمِيَ الوَحْيُ وتَتَابَعَ!)

([6])

ومن ثَمَّ استقر الإيمان في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإيمان بنفسه نبيا ورسولا من رب العالمين، حتى استيقن أنه أحد المرسلين، بل هو خاتم المرسلين والنبيئين.

        


ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - هو أول مؤمن في الإسلام. قال الله عز وجل في محكم القرآن:

(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون)

(البقرة:285)

. فهو أول مؤمن قبل أن يدعو إليه أحداً من العالمين حتى أقرب الناس إليه، آمن هو أولا! وهذا أمر بَدَهي، لكنه قضية منهجية، تحتل أهمية كبرى في فقه الدعوة الإسلامية.

 فهل آمنت الحركات الإسلامية بنفسها على أنها دعوة إلى الله أساساً؟ هل آمنت بأنها دعوة لتجديد الدين، من حيث هو "دين" قبل أي شيء آخر؟ أم أنها - في ذلك - على شك من أمرها؟ وعلى اضطراب في تحديد غايتها؟ إلى أي حد هي واعية، بل مؤمنة بوظيفتها الربانية؟ أم أنها تشتغل بمجرد وعي المشاركة في تطوير بنية مجتمع حديث؟ مجتمع هيكله الاستعمار الجديد وفق نظام حياة دخيل، ونمط عيش مستورد، فكان بذلك يخضع في خصائصه التنظيمية لنمط غير أصيل! وما المجتمع إن لم يكن نسيجا من العلاقات، ونسقا من المؤسسات؟ ماذا يمكن أن تعطي قراءة للحداثة من خلال بنيتها غير الحداثة نفسها؟

فإلى أي حد تجد الحركة الإسلامية نفسها مشتغلة في صلب الدين؟ ومجددة لحقائقه الإيمانية في النفس وفي المجتمع؟ ثم إلى أي مدى هي مؤمنة اليوم أن وظيفتها هي وظيفة الأنبياء، في إعادة الصلة حية جديدة بين المسلمين وبين ربهم؟

ما أحوج الداعية المسلم - فرداً وجماعةً - اليوم إلى وقفة وجدانية تفكرية عميقة! وقفة يستطيع أن يربط مصيرَه الأخروي بنتائجها وهو مطمئن! وقفة يسائل فيها نفسه خاليا، ليس بينه وبين ربه شيء! وتكون المساءلة فيها دائرة على أربعة قضايا منهاجية: من هو؟ وماذا يريد؟ ثم هذا الدين ما هو؟ وماذا يريد؟

((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ: أَن تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا! مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ!))

(سبأ: 46).

        فإذن؛ البعثة بمعناها التجديدي إنما هي (دعوة إسلامية)، أكثر مما هي (حركة إسلامية). إنها ليست حركة ترهن نفسها بمشروع (أسلمة) لواقع سياسي هجين. مشروع لا يعدو أن يكون مجرد تبن لمجموع مفاهيمه من خلال شواهد قرآنية ونصوص حديثية، مبتورة من سياقها، مجردة عن مقاصدها الشرعية، مفرغة من آثارها التربوية في النفس وفي المجتمع! إن (بعثة التجديد) هي دعوة كلية تعيد صياغة الإنسان من خلال استعادة إنتاج التنـزيل القرآني بمنهجيته التربوية الربانية الشاملة، بوعي علمي راشد، قوامه (الفقه في الدين) بمعناه الكلي، يؤمه جيل من العلماء الحكماء، ينطلقون مرة أخرى بالمعلوم من الدين بالضرورة، فيجددون الأصول العقدية والعملية، بمعنى تجديد الغرس والتربية والتكوين.

إنها إذن؛ تجديد المشاهدة للحقائق الإيمانية، وتجديد التَّمْسِيك الاجتماعي بالكتاب وإقام الصلاة. قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)(الأعراف:170).

الحاجة إذن تدعو – كما ذكرنا - إلى تجديد "الدعوة الإسلامية"؛ بدل "الحركات الإسلامية"! إن "الدعوة الإسلامية" هي مصدر بعثة التجديد، بما تحدثنا عنه من اصطلاح، وهي المتحكمة أساسا في حركة تحول المجتمع، وتوجيه التيار، وبناء النسيج الديني.

إن دعوة الإسلام هي عمل في صلب الدين، واندماج في قضاياه الإيمانية، وأحكامه الشرعية، واشتغال بنصوصه تربيةً ودعوةً؛ سيرا نحو مفهوم تجديد الدين في الأمة، بما هو دينٌ، أُنْزِلَ أساساً لِيُعْبَدَ به اللهُ في الأرض. بينما آل أمر "الحركة الإسلامية" – كما سبق بيانه – إلى "حركة سياسية" ذات توجه إسلامي! فهي عمل باسم الدين، ورفع لشعاره، تدور حوله لا داخله، ولو أن الأصل فيها أنها تشتغل من أجله!

المراجع

  1.  رواه ‌أبو داود والحاكم والبيهقي في المعرفة‌، عن أبي هريرة‌ مرفوعا. وصححه الألباني، رقم‌:‌ 1874 في صحيح الجامع‌.
  2. جزء حديث أخرجه أحمد والأربعة وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 6297
  3. وذلك ما حذرنا منه في كتيبنا (الفجور السياسي)؛ فرد علينا بعضهم بنوع من السخرية، ورد آخرون بتقليل أهمية الخَطر. وقلة من الدعاة هم الذين رأوا ما رأينا.
  4.  سيأتي بيان ذلك مفصلا في الفصول اللاحقة بحول الله.
  5.  عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يلحق بغار حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود بمثلها، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنا بقارئ). قال: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: "اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم". فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة، فقال: (زملوني زملوني). فزملوه حتى ذهب عنه الروع. قال لخديجة: (أي خديجة، ما لي؟ لقد خشيت على نفسي!) فأخبرها الخبر، قالت خديجة: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا! فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل، وهو ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك! قال ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوَ مخرجي هم؟). قال ورقة: نعم، لم يأت رجل بما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم) متفق عليه.
  6.  متفق عليه.


السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ "بعثة التجديد" دراسة في المفهوم

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day