تأليف القلوب
لقد كان أستاذ تأليف القلوب هو محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يعتبر تأليف القلوب جزءاً من الحق الذي بعث به وجاء به عليه الصلاة والسلام.
من هو الرجل الذي يدّعي أنه أكثر أعباءً وتبعات وتكاليف ومسئوليات من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أي إنسان في الدنيا -وكانت هموم الدنيا كلها على كتفه- وأي: إنسان يعتقد أنه أشد غيرةً وحرصاً وحماساً على دينه وعلى دعوته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أبداً! وعلى رغم كثرة أعبائه وتبعاته عليه الصلاة والسلام، وعلى رغم شدة حماسه لدعوته وتفانيه واستغراقه فيها؛ فإنه لم يغفل لحظةً واحدةً عن الحرص على جمع القلوب على هذه الدعوة، وإزالة نفور الناس لعلمه صلى الله عليه وسلم أن القلب هو أساس الصلاح والإصلاح، وأن الإنسان -مهما كان- لا يستطيع أن يفرض الحق على الناس بقوة الحديد والنار، ما لم تكن القلوب حول هذا الحق سياجاً يحوطه ويحميه.
ولذلك كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان..
{جاءه يوم من الأيام مخرمة بن نوفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يداري من مخرمة حدة وشدة، وكان فيه غلظة، فسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم يوزع أقبية على الناس -كما جاء في الصحيحين- فقال لابنه المسور: يا بني!! هلم بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطرق الباب فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته عرف لماذا جاء؛ فأخرج قباءً وأمسك به بيديه، وجاء إلى مخرمة يسلم عليه ويقول: يا مخرمة! خبأت هذا لك خبأت هذا لك} لا تغضب، هذا قد أعددته لك، وخبأته لك واحتجزته لك، فطاب خاطره وأخذه وانصرف.
وفي يوم من الأيام وزع النبي صلى الله عليه وسلم أموالاً، وكان سعد بن أبي وقاص حاضراً، فقال: {يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً وتركت فلاناً، والله إني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلماً؟ قال: والله إني لأراه مؤمناً، وفي الأخير قال النبي صلى الله عليه وسلم: أقتال يا سعد؟ -هل المسألة قتال وإلحاح- والله إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه كراهية أن يكبه الله على وجهه في النار}.
إذاً المسألة ليست مسألة أن هذا أولى وهذا أحق وهذا أفضل، أنا أعطي إنساناً مفضولاً، ترقيقاً لقلبه، وتقريباً لنفسه للإسلام وتأليفاً له على هذا الدين خشية أن يكبه الله على وجهه في النار.
ولو أن هذا الإنسان كبه الله على وجهه في النار فماذا يطول رسول الله صلى الله عليه وسلم منه؟! فهو صلى الله عليه وسلم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
بل هو في الفردوس الأعلى، وهي منـزلة في الجنة لا تنبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله ويرجو صلى الله عليه وسلم أن يكون هو صاحبها، فاسألوا الله له الوسيلة.
ومع ذلك يهمه صلى الله عليه وسلم هذا الإنسان ألا يدخل النار، ولا يكبه الله تعالى على وجهه في النار، فيتألف قلبه على الحق والخير والإسلام بشيء من لعاعة هذه الدنيا.
بل أعجب من ذلك وأغرب وأهول وأطول أنه في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم يوماً من الأيام مالاً على مجموعة من الناس، بعث إليه علي بن أبي طالب من اليمن بذهيبة في أديم فوزعها على أربعة رجال -أعطاها أربعة من المؤلفة قلوبهم- فوجد الناس في قلوبهم، حتى قام رجل، وقال: يا رسول الله! اتق الله!! -سبحان الله رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى رجل من أطراف الناس يقول له: اتق الله!! ويقولها على سبيل الإنكار لهذا القسم!!- فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وقد سمع من الناس وشوشة وكلاما-: ألا تأتمنوني وأنا أمين من في السماء، ينـزل علي الوحي صباحاً ومساء؟! ولما سمع ذلك الرجل الذي يقول: يا رسول الله اتق الله! قال: ويحك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟! فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا رسول الله! لأضربن عنقه -دعني أقتله- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، لعله أن يكون يصلي}.
وما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحقيق مع هذا الرجل ولا بسؤاله، ولا بالتحري حوله، ولم يسلط عليه أحداً، وإنما تركه، وأجاب على قوله: ألا تتقي الله؟ بقول صلى الله عليه وسلم: { أولستُ أحقَّ أهل الأرض بأن يتقي الله} أي: أنا الذي آمركم بتقوى الله عز وجل، فتوزيعي لهذا المال هو من تقوى الله عز وجل؛ لأنني ما أعطيته لأقاربي ولا احتجزته لنفسي، وإنما أعطيته أقواماً أتألفهم على الإسلام، وهذا من حق الإمام أن يتصرف فيه على وفق ما يرى المصلحة في ذلك.
{فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله! وإن كان هذا الرجل يصلي، كم من إنسان يصلي وفي قلبه ما فيه! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم}.
إذاً كان النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الموقف يحرص على تأليف قلوب الناس، ويتحمل منهم أخطاءهم وزلاتهم حرصاً على وحدة الكلمة وتقريب الناس من هذا الدين ومن العقيدة.
وفي حديث أنس رضي الله عنه وهو في مسلم أيضاً قال: {كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي وهو يمشي في الشارع، فجبذه - جر برد النبي صلى الله عليه وسلم بردائه - جبذة شديدة، حتى يقول أنس رضي الله عنه يقول: نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثرت فيها حاشية الرداء -ظهر الاحمرار في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم من أثر هذه الجذبة أو الجبذة- وقال الأعرابي بكل جفاء وغلظة: يا محمد! مُر لي من مال الله -ما قال من مالك أو مما عندك قال: من مال الله أي: كأنه يقول: ليس لك منه في هذا، فهو يقول: مر لي من مال الله الذي عندك فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟- التفت إليه وتبسم وأمر له بعطاء}.
وكانت الجارية تأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فتذهب به إلى أي سكك المدينة شاءت، وتكلمه فيما تريد، لا يستنكف أو يستكبر صلى الله عليه وسلم، بل يتحمل منهم.
ولك أن تتصور ماذا تقول هذه الجارية، أو ماذا يقول إنسان يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه مشكلة ويبدأ يعطيه من التفاصيل والكلام، وقال وقلت وحصل وكذا وكذا وتفاصيل لا يحتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى سماعها، وليس عنده في الحقيقة وقت لسماعها، لكنه تعود الحلم والصبر وسعة البال، فكان يعطي أذنه لمحدثه حتى ينصرف عنه.
ويعطي يده لمن يصافحه، فلا يقبض صلى الله عليه وسلم يده حتى يكون ذاك الآخر هو الذي يقبض يده.
: {وفقد يوماً من الأيام بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم رجلاً أو امرأة -كما في حديث أبي هريرة- كان أو كانت تقم المسجد، فقال: أين هو؟ قالوا: مات يا رسول الله، قال: هلَّا كنتم آذنتموني! قالوا: إنه مات في الليل، فكرهنا أن نوقظك؛ فقال: دلوني على قبره -أو قال على قبرها- فذهب إلى القبر فصلى وكبر عليها أربعاً، وأمرهم إذا مات أحد من أصحابه أن يوقظوه بليل أو نهار ليصلي عليه}.
فلم يغفل أو ينسى أو يتجاهل صلى الله عليه وسلم هذه الأمة السوداء التي كانت تقم المسجد.
ربما كثير من الناس يمرون بها ليس لها شأن، وليس لها قيمة، وليس لها اعتبار عندهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعلم الكبير لم يغفل عنها، فلما فقدها أياماً سأل: أين هي؟ ولما علم أنها ماتت انتقدهم على عدم إخباره بذلك، وأمر أن يدلوه على قبرها فكبر عليه أربعاً صلى الله عليه وسلم.
عنايته بالأطفال الصغار في يوم من الأيام -كما في الصحيحين- جيء بثوب جميل، فقالوا من يعطي هذا الثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عن أم خالد بنت خالد بن أبي العاص فجيء بها تُحمل -فتاة صغيرة السن- فأخذها وألبسها هذا الثوب بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم.
ولك أن تتصور أنك قد تعطي إنساناً ثوباً، ولكنك تضرب به في وجهه ضرباً، فلا يكون له وقع، لكن حينما تأتي بالصبي الصغير، فتلبسه هذا الثوب بيديك، ثم تمسح عليه، وتقول: ما شاء الله! تبارك الله! ما أجمل هذا الثوب! ما أحسنه! فيكون وقع هذه الكلمات وهذا التصرف في نفس الصبي عظيماً كبيراً.
وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، جيء بهذه الفتاة الصغيرة فألبسها الثوب بيده الكريمة، ثم قال: {ستى يا أم خالد} أي: هذا ثوب جميل حسن بلغة الحبشة وكناها النبي صلى الله عليه وسلم وفي التكنية لها -وقد يكون هذا اسمها أيضاً والظاهر أنه كنية فكناها لما في ذلك- من التحبب إليها.
كل هذه الأشياء -وغيرها كثير مما يطول الكلام به- مما يدخل في باب حرص النبي صلى الله عليه وسلم، على تأليف القلوب وسعة خلقه صلى الله عليه وسلم، وقدرته على صناعة الحياة على وفق ما يحبه الله تعالى ويرضاه من خلال الوصول إلى قلوب الناس.
فكانت قلوبهم وأرواحهم تفديه قبل أيديهم، كانوا في المعارك يموتون دونه عليه الصلاة والسلام، ويقول قائلهم: كذبتم وبيت الله نبزى محمداً ولما نُطَاعِنْ دونه ونناضلِ ونسلمَه حتى نُصرَّعَ حوله ونُذْهَلَ عن أبنائنا والحلائلِ يموتون دونه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يعرفون أنه به أنقذهم الله من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الإيمان والتوحيد، وأنقذهم به من النار إلى الجنة، ومع ذلك أيضاً: لِمَا يعرفونه من حسن خلقه وطلاقة وجهه وهشاشته وبشاشته.
وإلا فإن الله عز وجل يقول في محكم التنـزيل: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] أي: حتى هؤلاء الذين عرفوا عظيم نعمة الله عليهم ببعثته، يقول الله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].