تحقيق نعت الفقير
تحقيق نعت الفقير
فجملة نعت الفقير حقاً أَنه المتخلِّى من الدنيا تطرفاً والمتجافى عنها تعففاً. لا يستغنى بها تكثراً، ولا يستكثر منها تملكاً، وإِن كان مالكاً لها بهذا الشرط لم تضره، بل هو فقير غناه فى فقره، وغنى فقره فى غناه.. ومن نعته أَيضاً أَن يكون فقيراً من حاله وهو خروجه عن الحال تبرياً، وترك الالتفات إِليه تسلياً، وترك مساكنة الأَحوال والرجوع عن موافقتها فلا يستغنى بها اعتماداً عليها ولا يفتقر إِليها مساكنة لها. ومن نعته أَنه يعمل على موافقة الله [و] الصبر والرضى والتوكل والإِنابة، فهو عامل على مراد الله منه لا على موافقة هواه وهو تحصيل مراده من الله، فالفقير خالص بكليته لله عز وجل، ليس لنفسه ولا لهواه فى أَحواله حظ ولا نصيب، بل عمله بقيام شاهد الحق وفناءِ شاهد نفسه، قد غيبه شاهد الحق عن شاهد نفسه فهو يريد الله بمراد الله، فمعَّوله على الله، وهمته لا تقف دون شيء سواه، قد فنى بحبه عن حب ما سواه وبأَمره عن هواه وبحسن اختياره له عن اختياره لنفسه، فهو فى واد والناس فى واد خاضع متواضع سليم القلب، سلس القيادة للحق، سريع القلب إِلى ذكر الله، بريء من الدعاوى لا يدعى بلسانه ولا بقلبه ولا بحاله، زاهد فى كل ما سوى الله، راغب فى كل ما يقرب إِلى الله، قريب من الناس أَبعد شيء منهم، يأْنس بما يستوحشون منه ويستوحش مما يأْنسون به، متفرد فى طريق طلبه لا تقيّده الرسوم ولا تملكه العوائد ولا يفرح بموجود لا يأْسف على مفقود، من جالسه قرت عينه به ومن رآّه ذكرته رؤيته بالله سبحانه، قد حمل كله ومؤنته عن الناس، واحتمل أذاهم وكف أذاه عنهم، وبذل لهم نصيحته وسبل لهم عرضه ونفسه لا لمعاوضة ولا لذلة وعجز، لا يدخل فيما لا يعنيه ولا يبخل بما لا ينقصه، وصفه الصدق والعفة والإِيثار والتواضع والحلم والوقار والاحتمال، لا يتوقع لما يبذله للناس منهم عوضاً ولا مدحة، لا يعاتب ولا يخاصم ولا يطالب ولا يرى له على أَحد حقاً ولا يرى له على أَحد فضلاً، مقبل على شأْنه مكرم لإِخوانه بخيل بزمانه حافظ للسانه، مسافر فى ليله ونهاره ويقظته ومنامه لا يضع عصا السير عن عاتقه حتى يصل إِلى مطلبه، قد رفع له علم الحب فشمر إِليه، وناداه داعى الإشتياق فأَقبل بكليته عليه، أَجاب منادى المحبة إِذ دعاه حى على الفلاح، ووصل السرى فى بيداءِ الطلب، فحمد عند الوصول سراه، وإِنما يحمد القوم السرى عند الصباح:
فحى على جنات عدن فإِنها منازلك الأُولى وفيها المخيم
ولكننا سبى العدو، فهل تري نعود إِلى أَوطاننا ونسلم
وحى على روضاتها وخيامها وحى على عيش بها ليس يسأم
ص -52- وحى على يوم المزيد وموعد ال المبين، طوبى للذى هو منهم
وحى على واد بها هو أَفيح وتربته من أذفر المسك أعظم
ومن حولها كثبان مسك مقاعد لمن دونهم هذا الفخار المعظم
يرون به الرحمن جل جلاله كرؤية بدر التم لا يتوهم
أَو الشمس صحواً ليس من دون أُفقها ضباب ولا غيم هناك يغيم
وبينا فى عيشهم وسرورهم وأَرزاقهم تجرى عليهم وتقسم
إِذا هم بنور ساطح قد بدا لهم فقيل ارفعوا أبصاركم، فإِذا هم
بربهم من فوقهم وهو قائل: سلام عليكم طبتم وسلمتم
فيا عجبا، ما عذر من هو مؤمن بهذا ولا يسعى له ويقدم
فبادر إِذا ما دام فى العمر فسحة وعدلك مقبول وصرفك قيم
فما فرحت بالوصل نفس مهينة ولا فاز قلب بالبطالة ينعم
فجدَّ وسارع واغتنم ساعة السري ففى زمن الإِمكان [تسعى وتغنم]
وسر مسرعاً فالسير خلفك مسرع وهيهات ما منه مفر ومهزم
فهن المنأيا أى واد نزلته عليها [قدوم] أو عليك ستقدم
وإن تك قد عاقتك سعدى فقلبك ال معنى رهين فى يديها مسلم
وقد ساعدت بالوصل غيرك فالهوى لها منك [والواشى] بها يتنعم
فدعها وسلّ النفس عنها بجنة من الفقر فى روضاتها الدر [يبسم]
ومن تحتها الأنهار تخفق دائماً وطير الأَمانى فوقها يترنم
وقد ذللت منها القطوف فمن يرد جناها ينله كيف شاءَ وينعم
وقد فتحت أبوابها وتزينت لخطابها فالحسن فيها [مقسم]
[أقام علي] أبوابها داعى الهدي هلموا إِلى دار السعادة تغنموا
وقد طاب منها نزلها ومقيلها فطوبى لمن حلوا بها وتنعموا
وقد غرس الرحمن فيها غراسه من الناس، والرحمن بالغرس أعلم
فمن كان من غرس الإِله فإنه سعيد وإلا فالشقا متحتم
فيا مسرعين السير بالله ربكم قفوا بى على تلك الربوع وسلموا
وقولوا: محب قاده الشوق نحوكم قضى نحبه فيكم [تعيشوا وتسلموا]
قضى الله رب العالمين قضية بأَن الهوى يعمى القلوب ويبكم
وحبكم أَصل الْهدى ومداره عليه وفوز للمحب ومغنم
ص -53- وتفنى عظام الصب بعد مماته وأَشواقه وقف عليه محرم
فيا أَيها القلب الذى ملك الهوي أَعنته، حتام هذا التلوُّم
وحتام لا تصحو وقد قرب المدي ودقت كئوس السير والناس نوم
بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا ويبدو لك الأَمر الذى كنت تكتم
ويا موقداً ناراً لغيرك ضؤوها وحر لظاها بين جنبيك يضرم
أهذا جنى العلم الذى قد غرسته وهذا الذى قد كنت ترجوه تطعم
وهذا هو الحظ الذى قد رضيته لنفسك فى الدارين لو كنت تفهم
وهذا هو الربح الذى قد كسبته لعمرك لا ربح ولا الأَصل يسلم
بخلت بشيء لا يضرك بذله وجدت بشيءٍ مثله لا يقتوَّم
وبعت نعيماً لا انقضاءَ له ولا نظبر ببخس عن قليل سيعدم
فهلا عكست الأَمر إن كنت حازماً ولكن أَضعت الحزم إن كنت تعلم
وتهدم ما تبنى بكفك جاهداً فأنت مدى الأَيام تبنى وتهدم
وعند مراد الحق تفنى كميت وعند مراد النفس تسدى وتلحم
وعند خلاف الأَمر تحتج بالقضا ظهيراً على الرحمن للجبر تزعم
تنزه تلك النفس عن سوء فعلها وتغتاب أَقدار الإله وتظلَم
وتزعم مع هذا بأنك عارف كذبت يقيناً فى الذى أنت تزعم
وما أنت إلا جاهل ثم ظالم وإِنك بين الجاهلين مقدم
إذا كان هذا نصح عبد لنفسه فمن ذا الذى منه الهدى يتعلم
وفى مثل هذا كان قد قال من مضي وأحسن فيما قاله المتكلم
فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبة وإن كنت تدرى فالمصيبة أَعظم
ولو تبصر الدنيا وراءَ ستورها رأَيت خيالاً فى منام سيصرم
كحلم بطيف زار فى النوم وانقضى ال منام وراح الطيف والصب معرم
وظل أَرته الشمس عند طلوعها سيقلص فى وقت الزوال ويفصم
ومزنة صيف طاب منها مقيلها فولت سريعاً والحرور تضرّم
فجزها ممراً لا مقراً، وكن بها غريباً تعش فيها حميداً وتسلم
أو ابن سبيل قال فى ظل دوحة وراح وخلى ظلها يتقسم
أخا سفر لا يستقر قراره إلى أَن يرى أَوطانه يسلم
فيا عجباً كم مصرح عطبوا به بنوها ولكن عن مصارعها عموا
ص -54- سقتهم بكأْس الحب حتى إذا انثنوا سقتهم كئوس السم والقوم قد ظموا
وأعجب ما فى العبد رؤية هذه ال عظائم منها وهو فيها متيم
وأَعجب من ذا أَن أَحبابها الأْلي تهين وللأعداء تراعى وتكرم
وذلك برهان على أَن قدرها جناح بعوض أَو أَدق وأَلأَم
وحسبك ما قال الرسول ممثلاً لها ولدار الخلد والحق يفهم
كما يدخل الإنسان فى اليم إصبعا وينزعها منه فما ذاك يغنم
أَلا ليت شعرى هل أَبيتن ليلة على حذر منها وأَمرى محكم
وهل أَردن ماءَ الحياة وأَرتوي على ظمأ من حوضه وهو مفعم
وهل تبدون أَعلامهم بعد ما سفت عليها السوافى تستبين وتعلم
وهل أفرشن خدى ثرى عتباتهم خضوعاً لهم كيما يرقوا ويرحموا
وهل أَرين نفسى طريحاً ببابهم وطير أَمانى الحب فوقى تحوّم
فوا أَسفى تفنى الحياة وتنقضي وعتبكم باق، بقيتم وعشتم
فما منكم بد ولا عنكم غني وما لى من صبر فأَسلوَ عنكم
فمن شاءَ فليغضب سواكم فلا أَذي إِذا كنتم عن عبدكم قد رضيتم
وعقبى اصطبارى فى رضاكم هوى لكم حميد ولكنه عقاب ومغرم
وما أَنا بالشاكى لما ترتضونه ولكننى أَرضى به وأُسلم
وحسبى انتسابى من بعيد إِليكم وذلك حظ مثله يتيمم
إِذا قيل هذا عبدهم ومحبهم تهلل بشراً ضاحكاً يتبسم
وها هو قد أَبدى الضراعة قائلاً لكم بلسان الحال والحال يعلم
أَحبتنا عطفاً علينا فإِننا بنا ظمأُ، والمورد العذب أَنتم
فيا ساهياً فى غمرة الجهل والهوى صريع الأَمانى عن قليل ستندم
أَفق قد دنا الوقت الذى ليس بعده سوى جنة أَو حر نار تضرم
وبالسنة الغراءِ كن متمسكاً هى العروة الوثقى التى ليس تفصم
تمسك بها مسك البخيل بماله وعض عليها بالنواجذ تسلم
وإِياك مما أَحدث الناس بعدها فمرتع هاتيك الحوادث أَوخم
وهيء جواباً عندما تسمع الندا من الله يوم العرض: ماذا أجبتم
به رسلى لما أَتوكم، فمن يجب سواهم سيخزى عند ذاك ويندم
وخذ من تقى الرحمن أَسبغ جنة ليوم به تبدو عياناً جهنم
ص -55- وينصباك الجسر من فوق متنها فهاوٍ ومخدوش وناج مسلم
ويأْتى إله العالمين لوعده فيفصل ما بين العباد ويحكم
ويأْخذ للمظلوم إِذ ذاك حقه فيا ويح من قد كان للخلق يظلم
وينشر ديوان الحساب وتوضع ال موازين بالقسط الذى ليس يظلم
فلا مجرم يخشى هناك ظلامة ولا محسن من أجره الذر يهضم
وتشهد أَعضاءُ المسيء بما جني لذاك على فيه المهيمن يختم
ويا ليت شعرى كيف حالك عندما تطاير كتب العالمين وتقسم
أتأْخذ باليمنى كتابك أَم تري بيسراك خلف الظهر منك يسلم
وتقرأُ فيه كل شيء عملته فيشرق منك الوجه أَو هو يظلم
تقول كتابى هاؤمُ اقرؤُوه لي تبشر بالجنات حقاً وتعلم
وإِن تكن الأُخرى فإِنك قائل ألا ليتنى لم أَوته فهو مغرم
فلا والذى شق القلوب وأَودع ال محبة فيها حيث لا تتصرم
وحملها قلب المحب وإِنه ليضعف عن حمل القميص ويأْلم
وذللها حتى استكانت لصولة ال محبة لا تلوى ولا تتلعثم
وذلل فيها أَنفساً دون ذلها حياض المنايا فوقها هى حوم
لقد فاز أَقوام وحازوا مرابحا بتركهم الدنيا والإقبال منهم
على ربهم طول الحياة وحبهم على نهج ما قد سنه فهم هم