تصورات الأمم الضالة للمعبود _الرّب عند الرومان
لا نريد من وراء هذا البحث في هذا الموضوع أن نؤرخ للجانب المنحرف في العقيدة ، فذلك ليس في مكنة الباحث لكثرة أنواع الانحراف ، وما الفائدة من التأريخ للجانب المظلم والكفر ملة واحد ! إنما مرادنا من وراء ذلك أن ندرك شيئاً مما وقعت فيه الأمم ، كي نعلم القيمة العظيمة التي تمتاز بها العقيدة الإسلامية.
إنّ الذين يدركون الباطل ويعرفونه هم أقدر على معرفة الحقّ إذا اعتنقوه وإنّ الذين يتبعون الإسلام ولا يعلمون الجانب المقابل له ، وهو الباطل يخشى عليهم من الانزلاق في طرق الباطل ، وصدق عمر بن الخطاب حيث يقول : "توشك أن تنقض عُرى الإسلام عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"، ولا شك أنّ الذي يعرف ظلام الليل أقدر على معرفة ضوء النهار ، والصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى .
وقد أدرك هذه الحقيقة سيد قطب حيث يقول : " الإنسان لا يدرك ضرورة هذه الرسالة ، وضرورة هذا الانفكاك عن الضلالات التي كانت البشرية تائهة في ظلماتها ، وضرورة الاستقرار على يقين واضح في أمر العقيدة ... حتى يطّلع على ضخامة ذلك الركام ، وحتى يرتاد ذلك التيه ، من العقائد والتصورات ، والفلسفات والأساطير ، والأفكار والأوهام ، والشعائر والتقاليد ، والأوضاع والأحوال ، التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري في كل مكان ، حتى يدرك حقيقة البلبلة والتخليط والتعقيد التي كانت تتخبط فيها بقايا العقائد السماوية التي دخلها التحريف والتأويل ، والإضافات البشرية إلى المصادر الإلهية والتي التبست بالفلسفات والوثنيات والأساطير " .
ونكتفي بثلاثة نماذج : واحد منها يمثل عقيدة دولة من الدول التي يعدها الناس متمدنة في القديم . والثاني انحراف أهل ديانة سماوية عن الحق . والثالث الوثنية العربية قبل عهد الرسول صلى الله عليه وسلم .
الرّب عند الرومان (1)
يعد الباحثون الرومان من الأمم المتحضرة في القديم ، فلننظر إلى عقيدة هذه الأمة الضالة . يزعمون أنّ (( جوبيتر )) هو ربّ الأرباب عندهم ، وكانت صورته عندهم أقرب إلى صورة الشيطان منها إلى صورة الأرباب المنزهين ، فقد كان حقوداً لدوداً مشغولاً بشهوات الطعام والغرام ، لا يبالي من شؤون الأرباب والمخلوقات إلا ما يعينه على حفظ سلطانه والتمادي في طغيانه ، وكان يغضب على (( أسقولاب )) إله الطب ، لأنّه يداوي المرضى ، فيحرمه جباية الضريبة على أرواح الموتى الذين ينتقلون من ظهر الأرض إلى باطن الهاوية .
ويزعمون أنه كان يغضب على (( برومثيوس )) إله المعرفة والصناعة ، لأنّه يعلّم الإنسان أن يستخدم النّار في الصناعة ، وأن يتخذ من المعرفة قوة تضارع قوة الأرباب ، وقد حكم عليه بالعقاب الدائم ، فلم يقنع بموته ولا بإِقصائه عن حظيرة الآلهة ، بل تفنن في اختراع ألوان العذاب له ، فقيّده إلى جبل سحيق ، وأرسل عليه جوارح الطير تنهش كبده طوال النهار ، حتى إذا جنّ الليل عادت سليمة في بدنه ، لتعود الجوارح إلى نهشها بعد مطلع الشمس ... ، ولا يزال هكذا دواليك في العذاب الدائم مردود الشفاعة مرفوض الدعاء .
ومما تخيله الشاعر الوثني الفيلسوف (( هزيود )) عن علة غضب الإله على ((برومثيوس)) : أنّه قسم له نصيبه من الطعام في وليمة الأرباب ، فأكثر فيه من العظام ، وأقل فيه من اللحوم والشحوم ، فاعتقد (( جوبيتر )) أنه تعالى عليه بمعرفته وحكمته وفطنته ، لأنه اشتهر بين الآلهة بمعرفة وافرة وفطنة نافذة لم يشتهر بها الإله الكبير .
وقد اجتهد (هزيود) الشاعر الفيلسوف قصارى اجتهاده في تنزيه (( جوبيتر )) وتصويره للناس في صورة القداسة والعظمة ، تناسب صورة الإله المعبود بعد ارتقاء العبادة شيئاً ما في ديانة اليونان الأقدمين .
ومع ذلك فإن الباحثين الرومان يتحدثون عن (( جوبيتر )) أنّه كان يخادع زوجته (( هيرة )) ويرسل إله الغمام لمدارة الشمس في مطلعها حذراً من هبوب زوجته الغيرى عليه مع مطلع النهار ومفاجأته بين عشيقاته على عرش (( الأولمب )) .
وحدث مرة أنّها فاجأته وهو يقبل ساقيه (( جانيميد )) راعي الضأن الجميل الذي لمحه في الخلاء ، فاختطفه ، وصعد به إلى السماء ، .... فلم يتنصل (( جوبيتر )) من تهمة الشغف بساقيه ، ومضى يسوغ مسلكه لزوجته بما جهلته من لذة الجمع بين رحيق الكأس ورحيق الشفاه .
هذا نموذج للعقيدة الشركية الضالة صنعتها الخرافة والوهم ، فغدت أساطير . إنّ الآلهة عند الرومان آلهة متعددة تتصارع وتتقاتل ، ويعذب بعضها بعضاً ، وهي كالبشر تأكل وتشرب ، وتتزوج ، ويخون الإله زوجته ، ويلوط ويبرر خطأه ، فكيف يكون أثر هذه العقيدة في نفوس معتنقيها ؟ وكيف يكون أثرها في سلوكهم أفراداً ومجتمعات ؟ وأي قيم تقرها هذه العقيدة الشركية الضالة المنحرفة ؟
--------------------------------
(1) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه .