تفسير قوله تعالى: فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب
قال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 39 - 45].
* المناسبة:
لما ذكرَ سبحانه الأدلةَ التي تنطقُ بقدرةِ اللهِ تعالى على البعثِ، وهدَّدَ قريشًا الذين يُؤذون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، أمرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذاهم.
* القراءة:
قرئ (أدبار) بفتح الهمزة، وقرئ بكسرها، وقرأ الجمهور (يناد) بحذف الياء وصلًا ووقفًا.
وقرأ ابن كثير (ينادي) بإثبات الياء وقفًا، وقرأ الجمهور (المناد) بحذف الياء وصلًا ووقفًا، وقرأ ابن كثير بإثبات الياء وصلًا ووقفًا، وقرأ الجمهور (تَشَقق) بفتح التاء وتخفيف الشين، وقرئ بفتحها وتشديد الشين، وقرئ (تُشقق) بضم التاء.
* المفردات:
(سبح)؛ أي: بَرِّئْ ربَّكَ من كل سوءٍ، وسارعْ إلى طاعتِه، ونَزِّهْهُ تعالى عن وقوعِ الخلف في أخبارِه التي مِن جُملتها البعثُ، وقيل: المراد بالتسبيح هنا الصلاة، والتسبيح يطلق على الصلاة أيضًا، قالوا: ومنه قوله تعالى: ﴿ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴾ [الصافات: 143]، قال قتادة: فمعنى سبِّح بحمد ربك؛ أي: صل، (قبل طلوع الشمس) يعني: صلاة الصبح، (وقبل الغروب) يعني صلاة العصر، وقال ابن عباس: قبل الغروب: الظهر والعصر، ومن الليل صلاة العشاءين، (أدبار) بفتح الهمزة جمع دبر، والمراد بالسجود: الصلاة، فدبر الصلاة أي: عقبها، وفي الصحيح عن أبي هريرة مرفوعًا: ((من سبح دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبر ثلاثًا وثلاثين، فذلك تسعة وتسعون، وتمام المائة لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)).
وقراءة: (إدبار السجود) بكسر الهمزة، على أنه مصدر من أدبرت الصلاة إذا انقضت وتمت، وقد قام هذا المصدر مقام ظرف الزمان؛ كقولهم: آتيك خفوق النجم، والمعنى: ووقت إدبار الصلاة أي: انقضائها.
(المناد) المصوِّت بالحشر وهو إسرافيل، (الصيحة) النفخة الثانية، (بالحق) بالبعث، (الخروج) البعث من القبور، (المصير) المرجع، (تشقق) تنفلق، (حشر) بعث، وجمع، وسَوق، (يسير) هيِّن وسهل، (بجبار)؛ أي: بمتسلِّط تقهرهم على الإيمان، وتفعل بهم ما تريد، (وعيد) عقابي.
* التراكيب:
(فاصبر على ما يقولون) الفاء تفريعية، والخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم، و(ما) مصدرية أو موصولة، والعائد محذوف، والضمير المرفوع في (يقولون) لقريش، والباء في قوله: (وسبح بحمد ربك) إن كان استمع على بابه وأنه بمعنى الإصغاء والإنصات، فمفعوله محذوف يجوز أن يكون تقديره: واستمع ما أقول لك؛ يعني في شأن البعث، وعليه فقوله: (يوم يناد المنادي) كلام مستأنف، يوم: حينئذ منصوب بـ(يخرجون) مقدرًا، وقد دل عليه قوله: (ذلك يوم الخروج) أو تقديره: يعلمون عاقبة تكذيبهم، ويجوز أن يكون مفعول استمع تقديره: نداء المنادي أو نداء الكافر بالويل والثبور، وعلى هذا يكون (يوم يناد) ظرفًا لـ(استمع)؛ أي: استمع ذلك في يوم، وقيل: إن استمع بمعنى انتظر، وعليه يكون (يوم يناد المناد) مفعولًا به أي: انتظر ذلك اليوم، ووجه حذف الياء من يناد المناد اتباع الرسم، ومن أثبتها فلأنه الأصل، وإنما وصف المكان بالقرب؛ لبيان أنه يسمعه جميع خلقه، قيل: يسمعون الصوت من تحت أقدامهم.
وقوله: (يوم يسمعون الصيحة بالحق) يوم بدل من يوم قبله، وما بينهما اعتراض، وقيل: منصوب بـ(يخرجون) مقدرًا، وضمير يسمعون للخلق، والباء في قوله: (بالحق) للتعدية، إن قلنا: إن المراد بالحق: البعث، ويجوز أن تكون للملابسة أي: يسمعون الصيحة ملابسين للحق أو ملابسة للحق، ومرجع الإشارة في قوله: (ذلك يوم الخروج) بيوم النداء والسماع.
وقوله: (يوم تشقق الأرض عنهم سراعًا) يوم منصوب، قيل: على البدل من يوم يسمعون، وقيل: منصور بالمصدر وهو الخروج، وانتصب سراعًا على الحال من الضمير في عنهم، والعامل تشقق، وقيل: حال من مقدر؛ أي: فيخرجون مسرعين، ويجوز أن يكون هذا المقدرُ عاملًا في يوم تشقق، وقوله: (ذلك حشر علينا يسير) (ذلك) مبتدأ و(حشر) خبره و(يسير) صفة حشر (وعلينا) متعلق بيسير، وقدم لإفادة تخصيص اليسر به تعالى، ولا يضر في مثل هذا الفصل بين الموصوف وصفته؛ لأن الفاصل معمول الصفة، والإشارة إلى الإحياء بعد الفناء، والجمع للعرض والحساب المفهوم من السياق.
وقوله: (نحن أعلم بما يقولون)؛ أي: من نَفْيِ البعثِ والتكذيب بالآيات، وفيه تهديد شديد، ووعيد أكيد لكفار قريش، كما أن فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (وما أنت عليهم بجبار) جبار صيغة مبالغة من جبر الثلاثي، فإن فَعَّالًا إنما يُبنى من الثلاثي، وكثير من أهل الحجاز وبعض بني تميم يقولون: جبره جبرًا من باب قتل، بمعنى: قهره على الأمر قهرًا، ولغة عامة العرب سوى من ذكرنا يقولون أجبره على كذا؛ أي: حمله عليه قهرًا فهو مجبر، وهما لغتان جيدتان بمعنًى واحدٍ، قال الفراء: قد سمعت العرب تقول: جبرته على الأمر وأجبرته، قالوا ولم يجِئْ من أفعل على فعال سوى دَراك.
وقوله: (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد)، إنما قصر التذكير على من يخاف الوعيد؛ لأنه هو الذي ينتفع به، وقد خَتَمَ السورةَ بذكرِ القرآن الذي بدأها به كما هو الملاحظ في السور المبدوءة بالفواتح المباركة، فما أجملَ المطلعَ! وما أحسنَ الاختتامَ!
* المعنى الإجمالي:
فلا تَجزعْ بسبب الذي يُصادرونك به من القول السيئ، وبَرِئَ ربُّك من كل نقص حال كونِكَ تُثني عليه بما هو أهلُه، طرفي النهار وزلفًا من الليل، وعُقَيْبَ الصلواتِ، وأصْغِ لنداء المنادي يومَ يُصوِّت الملك من مكانٍ ليس ببعيد عنهم، يقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن الله يأمركنَّ أن تجتمعْنَ لفصل القضاء، فيقوم الناس لرب العالمين، يوم يقرع أسماعهم صوت المنادى بالبعث، ذلك يوم النداء والسماع يوم القيام من القبور.
إنا - لا سِوانا - نهب الحياة ونسلبها، وإلينا مرجع الخلائق أجمعين يوم تنفلق الأرض عن أجسام الموتى فيخرجون مسرعين، ذلك بعث وسوق وجمع سهل علينا، ولا يستطيعه سوانا، نحن المسيطرون على العباد، ولسْتَ عليهم بمسيطر، وما عليكَ إلا البلاغ، فَعِظْ بهذا الذكر الحكيم أهلَ خشيتِنا، فهم المنتفعون بالذكر.
* ما ترشد إليه الآيات:
1- الحضُّ على الصبر.
2- طمأنينةُ القلبِ بذكر الله.
3- الإكثارُ من ذكر الله.
4- وقوعُ البعثِ لا محالة.
5- سهولةُ البعثِ على الله عز وجل.
6- تهديدُ الكفارِ ووعيدُهم.
7- تسليةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
8- لا ينتفعُ بالذكرِ إلا من يخافُ وعيدَ الله.