ثمرات اليقين
والأمور التي يؤثرها في سلوك الإنسان، وفي قلبه، وفي سائر تصرفاته وأعماله:
* أولاً: أن اليقين إذا وصل إلى قلب الإنسان؛ امتلأ قلبه نوراً وإشراقاً، وانتفى عنه أضداد ذلك من الشكوك والريب والشبهات التي تقلقه: فيكون القلب مستريحاً مطمئناً، فيرتفع عنه السخط والهم والغم الذي يجلبه الشك والريب، فيمتلأ قلبه محبة لله، وخوفاً منه، ورضاً به، وشكراً له، وتوكلاً عليه، وإنابة إليه. فهو مادة جميع المقامات، والحامل لها، كما قال ابن القيم رحمه الله [مدارج السالكين 1/398]. بخلاف الريب والشك والتردد، فإنه يورث قلقاً في القلب، وضجراً وألماً، والشاك المرتاب يحصل له من ألم القلب ما الله به عليم، حتى يحصل له العلم واليقين، ولهذا كان الشك يوجب له حرارة، وأما اليقين فيوجد له برداً في قلبه ولهذا يقال:' ثَلَجَ صدرُه..وحصل له برد اليقين' [انظر: بإغاثة اللهفان 1/19-20]. فتزول عنه هذه الأمور التي تعصر القلب، وتؤلمه، وتعصف به، يقول ابن القيم [الوابل الصيب ص 69-70] رحمه الله تعالى، واصفاً مثالاً واقعياً شاهده على سكون صاحب اليقين، وعلى طمأنينته، وعلى رضاه الكامل، وعلى انشراح صدره وسروره وتنعمه -وهذا المثال هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- يقول ابن القيم: سمعته قدس الله روحه يقول:'إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة'. يقول ابن القيم: وقال لي مرة:'ما يصنع أعدائي بي؟! إن جنتي وبستاني في صدري أنَّى رحتُ، فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خَلْوَة، وقتلى شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة'. وكان يقول في محبسه في القلعة:'لو بَذَلْتُ ملئ هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: 'ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا'. -نعمة السجن- التي أورثته خلوة بربه، فحصل له من الأمور التي تورثه اليقين ما الله به عليم. وكان يقول في سجوده وهو محبوس:'اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك'. كان يردد ذلك.
وقال لابن القيم مرة:'المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه'. هذه حقيقة الأسر، فإذا كان الإنسان مأسور البدن إلا أن قلبه طليق مرتبط بالله عز وجل، فأي أسر مع هذا الاستشعار؟! قلبه مرتبط بيد الله، فهو يعلم أن هؤلاء الذين أسروه أمرهم بيد الله، وأنهم خلق ضعفاء، وإنما ابتلاه الله عز وجل بهم؛ لينقله إلى مراتب في الجنة لا يبلغها بعمله، ولهذا يتمنى أهل البلاء في الدار الآخرة أن لو قرّضوا بالمقاريض؛ لما يرون من الجزاء على هذا البلاء، فهو يشاهد هذه الحقائق... نعم قد أسره عدوه، ولكنه يعلم أن حركات هذا العدو وسكناته، وأن هذه القيود التي توضع في يده ورجليه أن الله عز وجل قد قدر ذلك، وأنه لا يَدَ لَهُ هو في دفعه ورفعه عن نفسه، فهو يتقلب في مرضاة الله عز وجل، ويسكن عند ذلك، ويعلم أن الله عز وجل ما فعل به ذلك ليهلكه، وإنما فعل به ذلك ليرفعه، وليعلى درجته، وأن هذا من جهاده ومن تمام عمله، وأن أجره يجرى عليه بلا توقف، فإذا استشعر العبد هذه الأمور لربما تمنى دوامها مع دفع بعض الأمور العارضة التي قد لا يرتضيها إذا كان الذي أسره أحد من الكافرين لئلا يكون للكافر عليه سبيل.
يقول ابن القيم رحمه الله يصف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: لما دخل إلى القلعة –سجن القلعة- وصار داخل سورها نظر إليه- ماذا قال؟ هل جزع؟ هل قال: أنا مستعد للمساومة؟ أنا مستعد لتراجع عن هذه العقيدة التي أعلنتها أمام الناس ودعوت الناس إليها؟ أبداً- نظر إلى السور، وقال:
" فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ[13] "
[سورة الحديد].
لاحظ هذا الاستشعار حينما أُدخل في سجن القلعة، فنظر إلى سورها لم يَخَفْ، وما قال: يا لهف نفسي ما الذي فعلته بنفسي؟ وماذا فعل بي أعدائي؟ما جزع، وإنما قال لما نظر إلى السور: :
" فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ[13] "
[سورة الحديد].
ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله، واصفاً له:' وعَلِمَ الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط مع كل ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً وأسرّهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه'. يقول:'وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً، وقوةً، ويقيناً، وطمأنينةً، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها، ونسميها، وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها، وإذا وصل العبد إلى مرتبة اليقين اندفعت عنه الشكوك والريب، ولهذا قال أحمد بن عاصم الأنطاكي رحمه الله- وهو واعظ دمشق-:'يسير اليقين يُخرج كل شك من القلب' [نزهة الفضلاء [955]].
كما أنه يجعل صاحبه يُفرّق بين الحق، وبين ما يُلبسه الشيطان على الجُهال من العُبّاد وغيرهم: ولهذا كان بعض المُتقدمين يُصلى ويختم كل ليلة في مسجده، وكان على مرتبة عظيمة من العبادة: من صلاة، وتهجد، وصيام، وقراءة القرآن، فرأى ليلة نوراً قد خرج من حائط المسجد وقال:تَمَلاَّ من وجهي فأنا ربك .- ومعلوم أن الله عز وجل لا يُرى في الدنيا- فماذا فعل هذا الرجل- وهو أحمد بن تزار القيرواني؟- فبصق في وجهه وقال: اذهب يا ملعون. فانطفأ النور الذي في الحائط. فهذا الشيطان تمثل، وأراد أن يخدعه، وأن يضله، فجاءه بهذه الصورة، فلما كان هذا راسخ الإيمان، ثابت اليقين لم يلتفت إلى هذا العارض، وما صرفه عن طاعة الله عز وجل، وما عرف عن ربه تبارك وتعالى.