حجابك الشرعي هو رايتك للدعوة إلى الإسلام
ومما يدمي قلب الحر المؤمن الغيور، ما نشاهده في هذا الزمان من تبرج النساء، والفتيات، وخروجهن متبذلات، كاسيات عاريات، مائلات مميلات، عاريات الشعور والظهور، من غير حياء ولا مبالاة! حتى صرن أكثر تبذلاً، وانحلالاً من أهل الجاهلية التي كانت قبل الإسلام!)()
وهذا كلام مليح جدا، فيه بيان لمستوى السقوط عن حد التدين الشرعي، الذي انحطت إليه المرأة المسلمة في خصوص هذا الزمان! لكن لا ينبغي أن يقودنا ذلك إلى سد ذرائع لم يأمر الله تعالى بسدها، وهو تعالى العليم بها. ولذلك أحب في هذا السياق أن أنقل نصا نفيسا للشيخ الألباني، فيه دلالة على أنه رحمه الله كان له فقه بالزمان والإنسان؛ إضافة إلى فقه جيد لهذه المسألة. فقد قال كلاما أعجبني أن يصدر من مثله - وهو المتهم بالتشدد - قال رحمه الله: (هل يجب على النساء أن يسترن وجوههن لفساد الزمان وسَدّاً للذريعة؟ فأقول: هذا السؤال يطرحه اليوم كثير من المقلدة، الذين لا ينظرون إلى المسائل الشرعية بمنظار الشرع وأدلته، ولا يتحاكمون عند الاختلاف إلى الكتاب والسنة، وإنما إلى ما قام في نفوسهم من الآراء والأفكار (...) ولجؤوا إلى تقليد بعض المقلدين، الذين جاؤوا من بعد الأئمة بعلة ابتدعوها، وهي قولهم: (بشرط أمن الفتنة!) أي: الافتتان بها!)([2]).
ثم قال بعد إيراد قصة الفضل بن العباس مع الفتاة الخَثْعَمِيَّة مرة أخرى، وقد ذكر سؤال العباس للنبيe: (يا رسول الله! لِمَ لَوَيْتَ عنق ابن عمك؟ فقالe: رأيت شابا وشابة ولم آمن الشيطان عليهما) فقال الألباني معلقا: (فهذا صريح في أنهe إنما فعل ذلك مخافة الفتنة؛ كما قال الشوكاني في نيل الأوطار(e فقد خالف هديهe!)(e (...) فلو شاء الله تعالى أن يوجب على النساء أن يسترن وجوههن أمام الأجانب؛ لفعل سدا للذريعة أيضا
"وما كان ربك نسيا"
(مريم:64) ولأوحى إلى النبيe أن يأمر المرأة الخثعمية أن تستر وجهها، فإن هذا هو وقت البيان – كما تقدم - ولكنه على خلاف ذلك، أرادe أن يبين للناس في ذلك المشهد العظيم؛ أن سد الذريعة هنا لا يكون بتحريم ما أحل الله للنساء؛ أن يسفرن عن وجوههن إن شئن! وإنما بتطبيق قاعدة: (يغضوا من أبصارهم!) وذلك بصرفه نظر الفضل عن المرأة)([5]).
قلت: وهو كلام صحيح مليح، يجري على قواعد أصول الشريعة ومقاصدها. على ما بيناه بالضبط من قاعدة عموم البلوى في هذا الشأن. وإنما سد الذريعة عند القائلين به يتعلق بما لا يقطع المصالح المشروعة. كما قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي(790هـ) في كتاب الموافقات، في قاعدة اطراد المصالح، التي بناها على (أصل اعتبار المآل في الأفعال). قال رحمه الله: (ومن هذا الأصل أيضا تستمد قاعدة أخرى، وهي: أن الأمور الضرورية، أو غيرها من الحاجية أو التكميلية، إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضى شرعا؛ فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح، على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة، من غير حرج؛ كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال، مع ضيق طرق الحلال، واتساع أوجه الحرام والشبهات. وكثيرا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز، ولكنه غير مانع؛ لما يئول إليه التحرز من المفسدة المُرْبِيَةِ على توقع مفسدة التعرض. ولو اعتُبِر مثلُ هذا في النكاح في مثل زماننا لأدى إلى إبطال أصله! وذلك غير صحيح. وكذلك طلب العلم، إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها، وشهود الجنائز، وإقامة وظائف شرعية، إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى؛ فلا يُخرِج هذا العارضُ تلكَ الأمورَ عن أصولها؛ لأنها أصول الدين وقواعد المصالح، وهو المفهوم من مقاصد الشارع. فيجب فهمها حق الفهم!)([6]).
قلت: وهذه قاعدة ثمينة لمن ذاق معنى أصول الفقه ومقاصد الشريعة! فهي تتضمن من الفقه في الدين الشيء الكثير؛ ولذلك قال: (فيجب فهمها حق الفهم!)
وأما قوله: (وكثيرا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز)؛ فليس معناه أنه يعقد النية على الحرام؛ ولكنه دال على أن الكسب عادة ما تنزل به نوازل من الممنوعات؛ بسبب اختلاط الحياة، مما لم يقصده المكلف أصلا، لكنه يصبح نازلة بين يديه لا مفر له منها؛ فإذا عُلِم هذا فلا يجوز رفع أصل الزواج سدا للذريعة، والقول بأن زماننا هذا - مثلا - يتعذر فيه الوصول إلى الكسب الحلال الصافي من الشبه؛ فلا زواج! كلا! بل لابد من استمرار النسل؛ وإذن فلا بد من استمرار الزواج مهما كانت الظروف!
وبهذه القاعدة أيضا نقول ببطلان سد الذريعة في القول بوجوب ستر الوجه. والمالكية هم المولعون بسد الذرائع، ولكنهم مع ذلك لم يسدوا هذه الذريعة الوهمية!
ومن هنا قال الشيخ الألباني رحمه الله - برؤية دعوية عجيبة، تدل في نازلتنا على فقه دعوي رفيع -: (وإني لأعتقد أن مثل هذا التشديد على المرأة لا يمكن أن يخرج لنا جيلا من النساء يستطعن أن يقمن بالواجبات الملقاة على عاتقهن، في كل البلاد والأحوال، مع أزواجهن وغيرهم، ممن تحوجهم الظروف أن يتعاملن معهم، كما كن في عهد النبيe، كالقيام على خدمة الضيوف، وإطعامهم، والخروج في الغزو، يسقين العطشى، ويداوين الجرحى، وينقلن القتلى، وربما باشرن القتال بأنفسهن عند الضرورة!)([7])
وقال رحمه الله في أول خاتمته لكتاب (الرد المفحم) كلمة ثمينة نقتطف منها ما يلي: (هذا ولا بد لي في هذه الخاتمة من لفت النظر إلى أن التشدد في الدين شر لا خير فيه! وإذا كان النبيe قد قال: "الخير لا يأتي إلا بالخير"([9]). وإنما المقصود بالشدة هنا هو نقل حكم النقاب من الندب إلى الوجوب! ومن الاستحباب إلى اللزوم! وهو واضح في صيغة عنوان الكتاب المذكور حيث جعل تمامه كما يلي: (الرد المفحم على من خالف العلماء، وتشدد وتعصب، وألزم المرأة أن تستر وجهها وكفيها وأوجب، ولم يقنع بقولهم: إنه سنة ومستحب).
وذكر رحمه الله أحاديث في النهي عن التشدد والتشديد، نذكر منها قولهe: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا! وقاربوا!)(e: (إياكم والغلو في الدين! فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)([11]). وغيرهما في هذا المعنى كثير. وإنما الموفق من وفقه الله.
إلا أنه لابد من البيان أن تغطية الوجه أمر مشروع محبوب في الشريعة؛ لأنه أكمل سترا، وأبلغ ورعا. وإنما بحثنا السالف قائم على دحض القول بالوجوب فيه ليس إلا! وفرق بين القول بالوجوب وبين القول بالجواز، أو الندب. فالقضية دقيقة - بنيتي - فتنبهي! فمن اختارت أن تتقرب إلى ربها بستر وجهها، خاصة إذا كانت جميلة جدا، ذات وجه فاتن، ينبض بالحسن والجمال، يقع عليه البصر فلا يطيق الغض عنه؛ فلا نقول لها إلا كما قال الله تعالى في الحديث القدسي، الذي فيه: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه)([12]).
وخلاصة القول أن أمره تعالى النساء بضرب الخمر على الجيوب فيه دلالة على وجوب تغطية حواشي العنق بغطاء الرأس. ومن هنا وجب أن يكون الخمار واسعا فضفاضا، لا كما يصنعه بعضهن من الاقتصار على غطاء قصير لا يفي بتمام الضرب على الجيوب.
ثم إنه لا بد من البيان أيضا أن التفنن في تنميق الحجاب، وتشكيله على حسب تجدد الموضات، واتباع آخر الصيحات و(التقليعات)، في الألوان والهيآت، لهو ابتداع في الدين، يخرج بلباس المسلمة الملتزمة حقا عن مقتضى قصد الشارع الحكيم، من الستر المفروض على المرأة؛ إذ يفقد بذلك صفته الشرعية! علما بأن إظهار الزينة على الحجاب الشرعي أصلا؛ يخرج به عن حد الشرع! ونص القرآن في ذلك واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، لمن كانت تفقه شيئا من مدارك النصوص الشرعية، وتدرك شيئا من مقاصد الشريعة، ومراتب الدلالات الأصولية. قال تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ)(النور:31). ذلك ما يسمى بقياس الأولى في علم الأصول. وتحقيق مناطه هنا هو أنه إذا كان النص الصريح قد حرم عليها الضرب بالأرجل في الأرض، وخبط القدمين على الطريق؛ حتى لا تسمع الرجال ما خفي من زينة الحلي المعلقة على بدنها، وما يحدث عن ذلك من رنين يثير خيال الرجال؛ فيستحضرون صورتها الداخلية بمجرد الخيال! فكيف - بالله عليك - لو أنها عرضت ذلك عليهم عرضا؟ فوق ألبستها لا تحتها، بما لا تحتاج معه إلى الضرب برجليها، بل تظهره ألوانا وأشكالا، وجواهر وحليا فوق حجابها المزعوم؛ حتى يشهدوا بأعينهم عيانا، لا توهما ولا خيالا! إن إظهار المتحجاب – زعمن – لزينتهن؛ إنما هو أمر أشبه ما يكون بالابن العاق، الذي سمع قول الله تعالى في حق الوالدَيْن: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا)(الإسراء:23) فقال: أنا لا أتأفف منهما ولا أنتهرهما، ولكني - فقط - أضربهما!
ويؤخذ من الآية المذكورة أيضا تحريم الخروج بالأحذية العالية، ذات الكعاب الدقيقة، مما يكون له فرقعة على الأرض، وطقطقة عند الخطو! حتى لكأنها تقول للرجال: اسمعوا وانظروا! ها أنا ذي مارة بين أيديكم! ألا قبح الله السَّفَه!
وجوب تغطية القدمين:
ومما وجب التنبيه عليه ما شاع في أوساط بعض المتدينات، من تساهل في تعرية أقدامهن، مع أن النصوص واضحة في وجوب ضرب اللباس عليهن سواء كان ذلك بالأزر والأردية أو بالجوارب. ومن النصوص في ذلك ما سلف ذكره من حديث عائشة في قولهe لأختها أسماء: (يا أسماء! إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا! وأشار إلى وجهه وكفيه) فهذا حصر لما يباح إظهاره من الجسم وهو الوجه والكفان. فامتنع بدلالة الحصر في مفهوم المخالفة تعريةُ القدمين وسائر الجسد ما عدا الوجه والكفين. وكذلك حديث ابنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهe:
(مَنْ جَرّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُر الله إليهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ النّسَاءُ بِذُيُولِهِنّ؟ قالَ: يُرْخِينَ شِبْراً، فقَالَتْ إذاً تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنّ، قالَ: فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعاً لا يَزِدْنَ عَلَيْهِ)
( وهو ظاهر في تجويز جر الإزار للنساء؛ اعتبارا لعلة ستر الأقدام.
وعليه كان عمل النساء زمن النبوة، وبه وقعت الفتوى من لدن أمهات المؤمنين للنساء. ففي موطأ مالك رحمه الله أن امرأة (سألت أم سلمة زوج النبي e: ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؟ فقالت تصلي في الخمار والدرع السابغ، إذا غيب ظهور قدميها)([14]).
وقال ابن عبد البر في التمهيد: (وقد أجمعوا أنه من صلى مستور العورة فلا إعادة عليه. وإن كانت امرأة فكل ثوب يغيب ظهور قدميها ويستر جميع جسدها وشعرها فجائز لها الصلاة فيه؛ لأنها كلها عورة إلا الوجه والكفين. على هذا أكثر أهل العلم)([15]).
والدرع: القميص. ومن هنا قال مالك رحمه الله: (إذا صلت وشيء من شعرها، أو قدمها مكشوف؛ تعيد ما دامت في الوقت! وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: تعيد أبدا! وشذ أبو حنيفة فقال: إن قدم المرأة ليس بعورة. ورُدَّ عليه بأحاديث الباب والآثار، التي لعلها لم تبلغه)([16]).
وفي كل ذلك دليل واضح على أن قدم المرأة عورة وجب سترها. وقد اتفقوا على أن أقل عورة المرأة ما تصح به صلاتها. وهو سائر بدنها ما عدا الوجه والكفين.
ولا ينقض ذلك الحديث الصحيح الذي رواه أنس بن مالك قال: (لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبيe، قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم، وإنهما لَمُشَمِّرَتَان، أرى خَدَم سوقهما، تنقزان القرب. وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانها في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم.)([17])
ومعنى خَدَم سوقهما: الخلاخيل، جمع خَدَمة بفتح الخاء والدال المهملة، ويلزم عنه أنه رأى ليس القدم فحسب؛ بل ما فوقها من الساق! وانكشاف ذلك إنما هو لطبيعة الظرف غير العادي من الحرب وخدمة الجرحى! فالمعتمد إنما هو نصوص أحوال السلم، والعمومات التي سبقت. ولذلك قال الألباني في سياق حديثه عن انخراط النساء المسلمات في نوازل الحرب والقتال ونحوها: (وقد ينكشف منهن ما لا يجوز عادة!) وهو يقصد هذا الحديث وما في معناه. وقد ذكره في هذا السياق بالذات!([18])
إن الحق في لباس المرأة قد ضاع بين فريقين. وكلاهما على غلو من فقهه: الأول قوم ألزموا المرأة ما لم يلزمها الله به من تغطية الوجه والكفين كما رأيت، وقوم تسيبوا فأباحوا كشف القدمين، وتزيين الألبسة من الجلابيب بما ينقض قصد شرع اللباس الإسلامي للمرأة من التقوى والعفاف. وكذا التشبه بالرجال فيما جرت العادة أن يلبسه الرجال من المعاطف والبنطلونات! ويضعن بعد ذلك على رؤوسهن خرقا بتلاويين وتشكيلات، ويقلن بعد ذلك إنهن محتجبات!
الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري الجزء الخامس، باب الحدود.
الرد المفحم:127
نيل الأوطار: 6/97.
الرد المفحم:137-138
الرد المفحم: 139-140
الموافقات: 4/210.
الرد المفحم: 149.
متفق عليه
الرد المفحم: 146
رواه البخاري
رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والضياء وغيرهم. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
وطرف الحديث بتمامه هو قول رَسُول اللَّهِe في الحديث القدسي: (إن اللَّه تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه! فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري.
رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
الموطأ: 1/142 ورواه أيضا أبو داود والبيهقي والدارقطني وعبد الرزاق في مصنفه. وروى مالك مثل ذلك عن عائشة وميمونة في الموطأ أيضا.
التمهيد: 6/364
التمهيد: 6/366
متفق عليه.
الرد المفحم: 149.