دوائر الإحسان
دوائر الإحسان
أما الفضل ؛ فله سيرةٌ أخرى ؛ لعل أقربها ما جاء عن عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له : " أَلاَ أَدُلُكَ عَلَىَ أَكْرَمِ أَخْلَاقِ الْدُّنْيَا وَ الْآَخِرَةِ : أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَ تُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ" (1) ..و ذاك هو الإحسان ، و من تأمل القرآن الكريم الجليل و أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم العظيمة يتضح له بجلاء أن الإحسان يُشَكِل – مع العدل – و يبينُ جوهرَ العلاقةِ بين الإنسان و أخيه ، و أن دائرة هذا الإحسان تتسع إلى النفس و الأسرة ؛ بل و كل شئ ؛ فالإحسان إلى النفس ، و هي الدائرة الأولى من دوائر الإحسان : تتضمن إخلاص العبادة ، و كمال الطاعة ؛ قال الله تعالى :" إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا " [ الإسراء : 7]
أما الدائرة الثانية من دوائر الإحسان : فتتمثل الإحسان إلى الوالدين ؛ قال تعالى : " وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " [ الإسراء :23] .
اما الدائرة الثالثة : و هى الإحسان إلى القرابة من الرحم قال تعالى : " وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ " [ البقرة : 83] .
الدائرة الرابعة : و هي أوسع من الدوائر السابقة ؛ فإنها تتضمن و تشتمل على المجتمع الإسلامي كلَّه .
إذاً ؛ هناك إحسان إلى النفس ، و إحسان إلى الرحم ، و إحسان إلى المسلمين جميعا ..
و الإحسان هنا يَنْصَبُ في الأصل على الجانب الضعيف في المجتمع الإسلامي من الفقراء و المساكين و اليتامى ، ثم إلى كلِّ مسلم بعد ذلك ؛ قال الله تعالى : " وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " [ النساء :36 ] ؛ فالإحسان حتى مع ملك اليمين ، ثم قال تعالى : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا " [ النساء :36 ]
أما الدائرة الخامسة : من دوائر الإحسان ؛ ألا و هي : الدائرة الأوسع في العلاقات ، فتشمل الإحسان إلى المخالفين في العقيدة .
فمن أُقيمت عليه – من هؤلاء – الحجة لكنه مع ذلك أصَرَّ على كفره ؛ فأنت تحسن إليه بالعفو عنه ، قال تعالى : " لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ " [ البقرة : 256] .
لكن بهذه الشروط و الضوابط التى أقولها ؛ لأن بعض أهل الضلال ربما يستدلُّ بهذا الدليل في غير موضعه ، فيأمر بالإحسان على الإطلاق لأهل الكفر، مستدلاً بالآية المذكورة ! فنقول : هذا دليل حق ؛ لكنه استدل بالديل في غير مناطه ، فأنت تُحسن إلى المخالفين في العقيدة إن أقمت الحُجَّة عليهم ، و لم يَحُلْ بينك و بين تبليغهم دين الله حائل ؛ فالجيوش جيِّشت في الإسلام لقتال مَنْ صَدَّ عن إبلاغ الناس دين الله و سماع الحق و لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر لعليٍّ حينما أعطاه الراية : " لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الْرَّايَةَ غَدا رَجُلا يُحِبُّ الله وَرَسُوْلَهُ وَ يُحِبُّهُ الله وَرَسُوْلَهُ " و لّمَّا أَخَذَ عليُّ الرايةَ ، قال : عَلَىَ مَاذَا أُقَاتِلُهُمْ يَا رَسُوْلَ الْلَّهِ ؟ قَالَ : " حَتَّىَ يَشْهَدُوَا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الْلَّهُ.."
فهذه هى الغاية :" حَتَّىَ يَشْهَدُوَا أَنْ لَا إِلَهَ إِلا الله ، وَ أَنَّ مُحَمَّدا رَسُوْلُ الله ، فَلَئِنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلا وَاحِدَا خَيْرٌ مِنْ انْ يَكُوْنَ لَكَ حُمْرُ الْنَّعَمِ" (2)
في هذه الحالة إن أقمت على هذا المخالف الحجة و الدليل و البرهان ، و بلغته الحق ، و فهم المراد ، و مع ذلك قال : لا أسلم ؛ حينئذٍ نقول له " لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ " لكن ما هي الضوابط الأخرى ؟ الضابط الثاني : هو أن يدفع الجزية إن كان قادراً !
لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أسقط الجزية عن غير القادر؛ فلإسلام دين عظيم ؛ فلابد من النظر إلى هذه الضوابط ؛ قال الله تعالى : " – في هذه الدائرة الأوسع : " فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " [ المائدة : 13]
------------------
(1) أخرجه الطبراني في " الأوسط " (5563) ؛ و قال الهيثميُ في " مجمع الزوائد " ( 8/189) : " و فيه الحارث و هو ضعيف "ورواه أحمد في " مسنده " (3/438) ، و الطبراني في الكبير (16817) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه مرفوعاً . و راجع " الضعيفة " (2859) و (6660) ، و قال الهيثميُّ (8/189) : " و فيه زبان بن فائد ، و هو ضعيف "و له شواهد ذكرها الهيثميُّ لكنها شديدة الضعف ؛ إلا طريقاً عند أحمد ( 4/148/158/159) و عزاه أيضا للطبراني (14158) ، ثم قال (8/188) : " و أحد إسنادي أحمد رجاله ثقات " و لفظه : " يا عقبة بن عامر ، صِلْ من قطعك ، و أعطِ مَنْ حرمك و اعف عمن ظلمك "و صحَّحه الألبانيُّ في " الصحيحة " (891) و (1911) و (2861) .
(2) أخرجه البخاريُّ ، كتاب " المغازي " باب غزوة خيبر (4210) و انظر أطرافه في رقم ( 2942) ، و مسلمٌ كتاب " فضائل الصحابة " باب من فضائل علي بن أبي طالب ( 2404-2406)