سيماء الصورة في التدافع الحضاري
ونعني بسيماء الصورة هنا صورة الجسم. فكل الأحكام الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، المتعلقة بلباس المرأة؛ إنما هي راجعة إلى الأصل الأول المبين في الفصل الأول. أي سيماء النفس. فوجب أن تكون الصورة خادمة للنفس وليس العكس، كما هي فلسفة الحضارة المادية في الغرب اليوم!
الصورة سيماء حضارية:
يخطئ الذين يظنون أن الصورة - بما تحمله من ألبسة وعلامات - محايدة لا انتماء لها. بل هي رمز خطير من أهم رموز الانتماء الحضاري! إنها تعبر عن تصور ما للحياة والوجود والمصير بصورة واعية، أو غير واعية.
إن العري في الغرب اليوم، عري الرجل والمرأة كليهما، صورة تعبر عن فلسفة حضارية! فأروبا وسليلتاها: أمريكا وأستراليا، تختزن مضمونا وثنيا قديما، يرجع إلى العهد اليوناني القديم. لقد انهزمت المسيحية يوم تبناها قسطنطين إمبراطور روما، فانتقلت من الشرق مهدها الأول إلى الغرب؛ ذلك أن الغرب لم يستطع أن يتخلص من فكره الوثني القديم. فبدل أن تتمسح أروبا توثنت المسيحية! أو بدل أن (تتنصر روما ترومت النصرانية) كما قال بعض مؤرخي الملل والنحل من المسلمين. وهذه أعظم مصيبة في تاريخ الديانة المسيحية! لقد فقدت طبيعتها الروحية إلى الأبد! قال ابن كثير رحمه الله: (ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له (قسطنطين)، فدخل في دين النصرانية. قيل: حيلة؛ ليفسده، فإنه كان فيلسوفاً، وقيل: جهلاً منه، إلا أنه بدَّل لهم دين المسيح وحرَّفه، وزاد فيه ونقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة، وأحل في زمانه لحم الخنزير، وصلوا له إلى المشرق، وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع، وزاد في صيامهم عشرة أيام؛ من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون، وصار دين المسيح (دين قسطنطين)!)()
إن الفنان اليوناني القديم الذي لا يجد حرجا في رسم أو نحت الصورة عارية تماما، مع العناية الشديدة في نقش الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة، في التماثيل والصور؛ إنما يستجيب لطبيعة الفلسفة الإغريقية القديمة. فكل ذلك له دلالة التفسير المادي للحياة، والتصوير الغرائزي للإنسان! وهو حس وثني غليظ، بمقتضاه عبد الإنسان الشهوات السلطانية والمالية والجنسية، سواء في عهد الفراعنة في مصر، أو في عهد اليونان القديم، حيث الآلهة هي مرجع التفكير، والاعتقاد الفلسفي والاجتماعي لدى الإنسان. ولذلك كان العهر جزءا من فلسفة اليونان، وجزءا من قيمهم الدينية. وقد فصل العلامة المودودي في كتابه "الحجاب" هذا المعنى بما يكفي، لكنا نقتطف منه قوله رحمه الله: (وتبدلت مقاييس الأخلاق عندهم، إلى حد جعل كبار فلاسفتهم، وعلماء الأخلاق عندهم؛ لا يرون في الزنى وارتكاب الفحشاء غضاضة، يلام المرء عليها ويعاب! (...) وانتشرت فيهم عبادة أفروديت "Aphrodite" التي كان من قصتها عندهم في الأساطير "Mythology" أنها خادنت ثلاثة آلهة، مع كونها زوجة إله خاص! وأيضا كان من أخدانها رجل من عامة البشر، علاوة على تلك الآلهة. ومن بطنها تولد كيوبيد "Kupid" إله الحب! نتيجة اتصالها بذلك الخدن البشري!)().
إن هذا المضمون - مع الأسف - لم تستطع المسيحية في أوروبا أن تقضي عليه، وإنما تكيفت معه وتبنته؛ استجابة لمحاباة الإمبراطور من جهة، واستجابة للعرقية الغربية اليونانية القديمة من جهة أخرى. ولكن الذي حدث هو تحول الأوثان من صورة إلى صورة! فبدل أن تصور الآلهة اليونانية شرعت في تصوير الآلهة المسيحية! فظهرت صورة العذراء وصورة المسيح عليه السلام - زعموا - وصور القديسين! وأثقلت بها الكنائس في كل مكان! وصار للمسيحية تجل وثني مع الأسف! هو الذي تطور ليعري الصورة البشرية الحية في الغرب اليوم كاملة! فتوجهت العقلية الغربية إلى التعري في كل مجالات الحياة! ومن هنا شهد الغرب ثقافة العري، التي طبعت أدبه وفنونه. ومن ثم صدرها إلينا مع المثقف العربي المصنوع على النمط الأوروبي!
ولذلك فليس عبثا أن يتجه الفن الإسلامي في العمارة إلى التجريد بدل التجسيد! من خلال اعتماد الخط العربي في الزخرفة والتعبير، والأشكال الهندسية الانحنائية، المتكاتفة والمتعاطفة، نقوشا وأسوارا وأزقة، كتعاطف المصلين في الصف خلف الإمام. ثم الأشكال التجريدية في الأعمال من صيام وقيام. كل ذلك لأن التجريد هو الفضاء الأقدر على التعبير عن عقيدة التوحيد.
إن حركة العري الجنسية في الغرب اليوم ما هي إلا امتداد طبيعي للانتماء الحضاري اليوناني القديم! فهي تحمل في طياتها تقديس الشهوات، وعبادة الملذات. وبذلك صار للجسم/الصورة سلطة كبرى في بناء التصورات وصناعة القرارت، في السياسة والتجارة والإعلام! وتلك هي الوثنية في صورتها الجديدة!
تفسير ابن كثير: في تفسير قوله تعالى:
(إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) الآية:(آل عمران:55).
الحجاب: 15. وانظر تفاصيل هذه الفلسفة فيما بعدها من صفحات!