صالونات القرآن


الشيخ / فريد الأنصاري


وأما الصورة الثانية من صور الدخول إلى فضاء القرآن؛ فهي صورة: (صالونات القرآن). ونقصد بذلك فتح صالون البيت للأحباب والأصحاب؛ من أجل الغاية نفسها، وهي تدارس القرآن الكريم، وتدبره، والإنصات إلى حقائقه وحِكَمِه(1). وهذا أفضل ما يجتمع عليه الناس من الخير؛ لأن به تتكون الشخصية الإسلامية المتماسكة على المستويين: النفسي والاجتماعي، وبه يحصل "التعارف" بمعناه القرآني الذي يبني الثقة بين الناس؛ قصد التواصل العمراني، وربط العلاقات الاجتماعية، القائمة على التعاطف والتواد والتراحم، مما يعطي للحياة داخل المجتمع الإسلامي معنى جميلا. وهو ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث النبوي المشهور:

(مَثَلُ المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم؛ مَثَلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له  سائر الجسد بالسَّهَرِ والْحُمَّى!)

متفق عليه.

 وما ذاك إلا لِمَا حصل بينهم من "التعارف" على الخير. فالتعارف الذي هو أحد مقومات المجتمع الإسلامي الأساسية، هو منبع وجود "المعروف" الذي هو ضد "المنكر"! ومن هنا قول الله تعالى:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)

(الحجرات:13).

فالتعارف - بهذا المعنى - وسيلة هامة جدا لبناء التقوى والصلاح داخل المجتمع، بما يتيحه من التنافس في البِر، والتعاون على التقوى.

وأساس ذلك كله إنما هو هذا المفهوم الإسلامي الأصيل؛ لبناء الأخوة الاجتماعية في الإسلام، ألا وهو: (المحبة في الله)! ونظرا لأهمية هذا المعنى في تقوية النسيج الاجتماعي بين الناس؛ فقد حرص الرسول  على بيان أثره الكبير في ميزان الإيمان والحسنات! على نحو ما حكاه عليه الصلاة والسلام في قصة المحبة، قال صلى الله عليه وسلم:

(خَرَجَ رَجُلٌ يزور أخاً له في الله عز وجل، في قرية أخرى، فَأرْصَدَ الله عز وجل بِمَدْرَجَتِهِ [أي: بطريقه] مَلَكاً، فلما مَرَّ به قال: أين تريد؟ قال: أريد فلانا، قال: لِقَرابَةٍ؟ قال: لا! قال: فلِنِعْمَةٍ له عندك تَرُبُّهَا؟ قال: لا! قال: فَلِمَ تأتيه؟ قال: إني أحبه في الله! قال: فإني رسولُ الله إليك! إنه يحبك بحبك إياه فيه!).

رواه مسلم، وابن حبان، وأحمد واللفظ له.

وفي رواية مسلم:

(قال: فإني رسول الله إليك: بأن الله قد أحبَّكَ كما أحببتَه فيه!)

ومن هنا جعل الله المتحابين فيه تعالى تحت ظله يوم القيامة، يوم لا ظل إلا ظلُّهُ جلَّ جلالُه! وهو ما نصَّ عليه النبي في قوله صلى الله عليه وسلم :

(سبعةٌ يظلهم الله في ظلِّه، يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه: الإمامُ العادل، وشابٌّ نشأ في عبادة ربه، ورَجُلٌ قلبُه معلَّقٌ في المساجد، ورَجُلان تَحَابَّا في الله، اجتمعا عليه وتفرَّقَا عليه، ورجُلٌ طلبته امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله! ورَجُلٌ تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شِمالُه ما تنفق يمينُه، ورجلٌ ذَكَرَ الله خالياً ففاضت عيناه!)

متفق عليه.

في هذا الصنف الرباني الرفيع من العباد إذن؛ يَسْلُكُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المتحابين في الله. وما ذاك إلا لِمَا لهذه المحبة من الإخلاص، ولِمَا فيها من الصدق!

وإنما موائد القرآن المقدَّمة في (صالونات القرآن)، هي الكفيلة – في هذا العصر بشكل خاص - بتغذية روح التعاطف والتراحم بين المسلمين، وتمتين عمران المحبة العالي! بصورة متفردة عجيبة؛ للفوز بأفضل المنازل الإيمانية، وأجمل المعاني الروحانية!

إن مجالس القرآن - بما تصنعه من أخوة صادقة، ومحبة عالية بين الْجُلَسَاءِ - لَتُشَكِّلُ شبكةً روحية ذات خطوط عمودية وأخرى أفقية. تتواصل بانسجام فيما بينها أفقيا، على المستوى الاجتماعي – من جهة - على أدق وألطف ما يكون الانسجام! وتَمْتَدُّ - من جهة أخرى – إلى أعلى عموديا نحو السماء! موصولة القلوب بحبل الله من المدد الروحي، المتنـزل عليها من لدنه تعالى؛ ذِكْراً في الملأ الأعلى، ورعايةً في الأرض! وتأَمَّلْ صورَ هذه الأحاديثِ التاليةِ تَرَ عجبا! تَرَ كيف يصوغ القرآن المجيدُ شبكةَ الروح الممتدة من المجتمع الإنساني إلى الله رب العالمين! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض!)

سبق تخريجه.

وقال في مثل ذلك أيضا:

(أبشروا.. فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به! فإنكم لن تهلكوا، ولن تضلوا بعده أبدا..!)

رواه الطبراني بإسناد صحيح‌. ‌وهو في صحيح الجامع الصغير: 34

وروي بصيغة أخرى صحيحة أيضا فيها زيادة ألطف، قال صلى الله عليه و سلم :‌

(أبشروا..! أبشروا..! أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟‌ قالوا:‌ بلى، قال:‌ فإن هذا القرآن سَبَبٌ، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به! فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبدا!)

سبق تخريجه.

فلا ضلال إذن بما وَضَحَ من الطريق السالكة إلى الله! ولا هَلَكَةَ بما تَمَتَّنَ من نسيج الأمة وتَقَوَّى من عضدها! وما غير منهاج القرآن العظيم بذلك كفيل؟!

لكن لابد من بيان أن القرآن لا يشتغل حقيقةً؛ إلا إذا تحرك به قلب العبد المؤمن! نعم! واشتعل له وجدانُه! وتهيأ كيانُه كلُّه للاشتعال! فالمعاناة الإيمانية النابعة من صدق الإقبال على الله، وشدة الافتقار إليه تعالى؛ هي وحدها الكفيلة بتهيئة النفس وتصفيتها؛ حتى تصلح مرآتها لتعكس أنوار حقائق الإيمان، الكامنة في القرآن، وتستدر أسرار العرفان المكتنـزة فيه! إنها هي وحدها تتيح للعبد الصادق تفجير زناد القرآن، وإشعال زيته الوقاد! ذلك أن الله جعل قلب العبد المؤمن هو المحرِّك الذي يُشَغِّلُ قاطرة الإيمان، ولا حركة إلا بِمُحَرِّك! فكيف ينطلق النور؟ وكيف يتوهج القرآن؟ وهذا القلب جامد هامد، لا تهب به رياح الأشواق؟

وعليه؛ فإن مجالس القرآن بما تتضمنه من أسرار هذا المنهج، وبما تتيحه من تهييج الشوق إلى الله، وإكْسَابِ القلبِ هذه الصفةَ الحركيةَ الوجدانية، خصلةً ذاتيةً ومهارةً حيويةً؛ تجعل الْجُلَسَاءَ الْمُتَحَلِّقينَ بها أشْـبَهَ – فعلا - ما يكونون بالسُّرُجِ والْمَصَابيحِ المعلقة في السماء! تشع بالنور وهي تدور بأفلاكها سيراً إلى الله.. وذلك بما يَنْقَدِحُ في قلوبهم من نور الإيمان! وأسرار القرآن! واقرأ إن شئت – على هذا الوِزَان - آية النور من سورة النور! وإنها لآيةٌ وأيُّ آية! فأبْصِرْ ..!

قال الله جَلَّ ثناؤه وتقدست أسماؤه:

(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.)

(النور:35)

فالآية مَثَلٌ ضربه الله جل جلاله للقرآن في قلب العبد المؤمن عندما يتوهج إيمانه، ويَتَّقِدُ وجدانه؛ بما يتدفق عليه من زيت القرآن وهو آياته البينات! فذلك: نورٌ على نور! فالمشكاة: هي صدر المؤمن. والمصباح هو: القرآن. والزجاجة هي: قلب المؤمن. فكلما اشتغل العبد بِوَارِدِ القرآن تَوَهَّجَ الإيمان بقلبه واشتعل؛ فتدفق منه النور! فهو لذلك كالكوكب الدُّرِّيّ النابضِ بالحسن والجمال في علياء السماء! فإلى نحو هذا المعنى ذهب الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله في تفسير الآية؛ نقلا عن عدد من سلف الصحابة والتابعين، منهم أُبَيّ بن كعب، وابن عباس رضي الله عنهما(2)

المراجع

  1. لصالونات القرآن أشكال فرعية أخرى، وصور تندرج ضمنها، سنعرض لها بحول الله في أواخر هذا المدخل.
  2.  جامع البيان: 18/140. نشر دار الفكر، بيروت: 1405هـ.


السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ صالونات القرآن

  • « مَجَالِسُ القرآنِ » مِفْتَاحُ الْمَشْرُوع

    الشيخ / فريد الأنصاري

    منهجُ تَدَارُسِ القرآن بِمَجَالِسِ القرآن كان لذلك الزمان، وهو لهذا الزمان، منهجٌ دائمٌ متجدد، لا يبلى ولا يتقادم

    02/05/2018 2097
  • مشروع النهضة

    مجدي الهلال

    إذا كان القرآن هو الكتاب الوحيد الذي لا يمكن أن يختلف عليه اثنان... وإذا كان القرآن هو المعجزة التي يمكنها أن

    30/05/2023 286
  • متى نرجع للتفسير ؟

    مجدي الهلال

    أما التفسير فله أهمية كبرى وسنكون دائما في حاجة للرجوع إليه، ولكن لنجعل له وقتا آخر غير الوقت المخصص لتلاوة

    10/06/2023 180
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day