كلمة " رب " تشير إلى التربية والتعهد والتنشئة وضمان مقومات الحياة، ومنها رب الأسرة وربة المنزل. فإذا أطلقت كلمة الرب انصرفت إلى رب كل المخلوقات " الله " جل في علاه. ولأن الرب هو الذي خلق كل المخلوقات واستدعاها إلى الوجود، فإن عطاء الربوبية يشمل خلق المخلوقات ابتداء، ثم رزقهم الذي يضمن لهم استمرار الحياة. والرزق هو كل ماينتفع به: من طعام وشراب وملبس ومسكن، وعقل وعلم وثقافة واكتشاف واختراع...الخ
وكل هذا يتأتى للإنسان بانفعال المخلوقات في الكون له، ولهذا كان من كمال عطاء الربوبية تسخير باقي الكائنات للإنسان، الذي كرمه الله وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا. قال تعالى: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً " (سورة الإسراء، الآية 70). ونحن نعمل في الدنيا بالعقل المخلوق لله، الذي يتفكر ويتدبر ويخطط، وبالقوة المخلوقة لله في جوارحنا كاليد والرجل والقوى البدنية عموما، وفي المادة المخلوقة لله، من عناصر الأرض المختلفة، فأي شئ للإنسان ؟ ومع ذلك احترم الله عملنا وقدر أن يكافئنا عليه.
ولكي يكتمل عمل الإنسان في الدنيا فقد سخر الله لنا الجوارح، تنفعل لإرادة صاحبها، مؤمنا كان أو كافرا. فيد الكافر وبقية جوارحه لا تتأبى عليه حتى وإن استعملها في المعصية. تفعل الجوارح ذلك، رغم أنها كارهة لفعل الكافر، ولكنها مسخرة. وجوارح الإنسان مثلها مثل باقي المخلوقات مؤمنة بربها، تحب الطاعة وتكره المعصية، لكن عطاء الربوبية يسخرها لصاحبها. ولذلك فإن كان الإنسان الكافر كافرا، فإن أبعاضه مؤمنة: جوارحه وخلايا جسمه وجزيئاته وذراته، كلها تسجد لله مع باقي خلقه. قال تعالى: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ " (سورة الحج الآية 18). ويوم القيامة تنفك الجوارح من عقال التسخير فتشهد على صاحبها بالحق. قال تعالى: " يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " (سورة النور الآية 24). كما سخر الله للإنسان مافي السماوات ومافي الأرض، تنفعل له وتعطيه نتيجة عمله، وتحبه إن كان مؤمنا وتكرهه إن كان كافرا. قال تعالى: " أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ " (سورة لقمان الآية 20).
ليس من شروط التسخير أن يكون الإنسان مؤمنا بالله، ولكن المخلوقات مسخرة لكل إنسان مؤمنا كان أو كافرا، ذاك عطاء الربوبية. فمن جد واجتهد وأحسن استخدام عقله وجوارحه وإمكانيات البيئة حوله، حقق المكاسب وارتفع شأنه في هذه الحياة الدنيا. ومن تكاسل عن العمل وركن إلى القعود أو إلى ملذات الحياة تراجع وانهزم. عطاء ربنا " عطاء الربوبية " لكل البشر، لمن أراد الدنيا العاجلة ولمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها، وماكان عطاء ربنا محظورا. قال تعالى: " مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً * كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً " (الآيات من 18 - 20).
هذا عطاء الربوبية.
أما عطاء الألوهية فلا يكون إلا لمن آمن بالإله الواحد.
يمده الله أولا بالمنهج الذي يصلح به حياته. ثم يمده بالعون على اتباع المنهج. ثم يجزيه الجزاء الأوفى يوم القيامة على صالح عمله. والله لا يكلف بمنهجه إلا من آمن به، لذا جاءت كل الآيات التي تتحدث عن أحكام الدين وتشريعاته مسبوقة بنداء المؤمنين، وليس بنداء الناس. قال تعالى: " يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ " (سورة البقرة الآية 172). وقال تعالى: " يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " ( سورة البقرة الآية 183). وغير ذلك كثير.
أما الكافر فلا نصيب له من عطاء الألوهية.
لا تكليف ولا هداية ولا عون ولا جزاء. قال تعالى: " مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ " (سورة الشورى الآية 20). وقد أبدع الشيخ الشعراوي رحمه الله في شرحه للفرق بين عطاء الربوبية وعطاء الألوهية وهو يفسر آيات سورة البقرة الخاصة بسيدنا إبراهيم عليه السلام. فعندما طلب إبراهيم ميراث النبوة لذريته، علمه الله أن عهده وشرعه لاينال الظالمين، فذلك عطاء الألوهية، لا يكون إلا للمؤمنين والطائفين والعاكفين والركع السجود.
قال تعالى: " وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ " (سورة البقرة الآيتان 124 – 125).
بعدها طلب إبراهيم من ربه الرزق والثمرات وخص بدعائه من آمن بالله واليوم الآخر، فعلمه الله أن الرزق لمن آمن ولمن كفر، فذلك عطاء الربوبية. لكن ذلك لايمنع العدل الإلهي في الجزاء، فلمن كفر رزق في الدنيا ثم يضطره الله إلى عذاب النار في الآخرة وبئس المصير.
قال تعالى: " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ " (سورة البقرة الآية 126).
صدق الله العظيم.