فوائد معرفة حال السابقين المقربين
( فوائد معرفة حال السابقين المقربين ):
منها: أن لا يزال المتخلف المسكين مزريا على نفسه ذاما لها.
ومنها: أنه لا يزال منكسر القلب بين يدي ربه تعالى ذليلا له حقيرا يشهد منازل السابقين وهو في زمرة المنقطعين، ويشهد بضائع التجار وهو في رفقة المحرومين.
ومنها: أنه عساه أن تنهض همته يوما إلى التشبث والتعلق بساقة القوم ولو من بعيد.
ومنها: أنه لعله أن يصدق في الرغبة واللجأ إلى من بيده الخير كله أن يلحقه بالقوم ويهيئه لأعمالهم فيصادف ساعة إجابة لا يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا أعطاه.
ومنها: أن هذا العلم هو من أشرف علوم العبادة، وليس بعد علم التوحيد أشرف منه، وهو لا يناسب إلا النفوس الشريفة، ولا يناسب النفوس الدنيئة المهينة، فإذا رأى نفسه تناسب هذا العلم وتشتاق إليه وتحبه وتأنس بأقله فليبشر بالخير فقد أهل له، فليقل لنفسه: يا نفس، فقد حصل لك شطر السعادة فاحرصي على الشطر الآخر، فإن السعادة في العلم بهذا الشأن والعمل به، فقد قطعت نصف المسافة فهلا تقطعين باقيا فتفوزين فوزا عظيما.
ومنها: أن العلم بكل حال خير من الجهل، فإذا كان اثنان أحدهما عالم بهذا الشأن غير موصوف به ولا قائم به، وآخر جاهل به غير متصف به فهو خلو من الأمرين، فلا ريب أن العالم به خير من الجاهل، وإن كان العالم المتصف به خيرا منهما فينبغي أن يعطي كل ذي حق حقه وينزل في مرتبته.
ومنها: أنه إذا كان العلم بهذا الشأن همه ومطلوبه فلا بد أن ينال منه بحسب استعداده ولو لحظة لو بارقة، ولو أنه يحدث نفسه بالنهضة إليه.
ومنها: أنه لعله يجري منه على لسانه ما ينتفع به غيره بقصده أو بغير قصده، والله لا يضيع مثقال ذرة فعسى أن يرحم بذلك العامل.
وبالجملة ففوائد العلم بهذا الشأن لا تنحصر فلا ينبغي أن تصغي إلى من يثبطك عنه وتقول: إنه لا ينفع بل احذره واستعن بالله ولا تعجز ولكن لا تغتر، وفرق بين العلم والحال، وإياك أن تظن أن بمجرد علم هذا الشأن قد صرت من أهله، هيهات ما أظهر الفرق بين العلم بوجوه الغنى وهو فقير وبين الغني بالفعل، وبين العالم بأسباب الصحة وحدودها وهو سقيم وبين الصحيح بالفعل.
فاسمع الآن وصف القوم وأحضر ذهنك لشأنهم العجيب وخطرهم الجليل، فإن وجدت من نفسك حركة وهمة إلى التشبه بهم فاحمد الله وادخل فالطريق واضح والباب مفتوح:
إذا أعجبتك خصال امريء فكنه تكن مثل ما يعجبك
فليس على الجود والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك
فنبأ القوم عجيب، وأمرهم خفي إلا على من له مشاركة مع القوم، فإنه يطلع من حالهم على ما يريه إياه القدر المشترك.
وجلمة أمرهم: أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب.
قد أنساهم حبه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه. وقد فنوا بحبه عن حب من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه والإنابة إليه والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره. فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إِلهه ومولاه واجتمع همه عليه متذكراً صفاته العلى وأسماءَه الحسنى مشاهداً له فى أسمائه وصفاته، قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته، فبات جسمه فى فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد أَوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه، وأسجده بين يديه خاضعاً خاشعاً ذليلاً منكسراً من كل جهة من جهاته.
فيا لها سجدة ما أشرفها من سجدة، لا يرفع رأْسه منها إلى يوم اللقاءِ.
وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدى ربه؟ قال: أى والله، بسجدة لا يرفع رأْسه منها إلى يوم القيامة.
فشتان بين قلب يبيت عنه ربه قد قطع فى سفره إليه بيداءَ الأَكوان وخرق حجب الطبيعة، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم حتى دخل على ربه فى داره فشاهد عز سلطانه وعظمة جلاله وعلو شأْنه وبهاءَ كماله، وهو مستو على عرشه يدبر أمر عباده وتصعد إليه شؤون العباد وتعرض عليه حوائجهم وأعمالهم، فيأْمر فيها بما يشاءُ، فينزل الأمر من عنده نافداً [كما أمر]، فيشاهد الملك الحق قيوماً بنفسه مَقِّيمَاً لكل ما سواه غنياً عن كل من سواه وكل من سواه فقير إِليه: {يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} [الرحمن:29]، يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويفك عانياً وينصر ضعيفاً ويجبر كسيراً ويغنى فقيراً ويميت ويحيى ويسعد ويشقى ويضل ويهدى وينعم على قوم ويسلب نعمته عن آخرين ويعز أَقواماً ويذل آخرين ويرفع أَقواماً ويضع آخرين.
ويشهده كما أَخبر عنه أعلم الخلق به وأصدقهم فى خبره حيث يقول فى الحديث الصحيح: "يمين الله ملأَى لا يغيضها نفقة، سحاءَ الليل والنهار، أَرأَيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإِنه لم يغض ما فى يمينه، وبيده الأُخرى الميزان يخفض ويرفع"، فيشاهده كذلك يقسم الأرزاق ويجزل العطايا ويمن بفضله على من يشاءُ من عباده بيمينه، وباليد الأُخرى الميزان يخفض به من يشاء ويرفع به من يشاءُ عدلاً منه وحكمة لا إله إلا هو العزيز الحكيم، فيشهده وحده القيوم بأمر السموات والأرض ومن فيهن، ليس له بواب فيستأْذن ولا حاجب فيدخل عليه، ولا وزير فيؤتى ولا ظهير فيستعان به ولا ولى من دونه فيشفع به إليه، ولا نائب عنه فيعرفه حوائج عباده، ولا معين له فيعاونه على قضائها، [بل قد] أحاط سبحانه بها علماً ووسعها قدرة ورحمة، فلا تزيده كثرة الحاجات إلا جوداً وكرماً، ولا يشغله منها شأْن عن شأْن، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين.
لو اجتمع أول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم وقاموا فى صعيد واحد ثم سأَلوه فأعطى كلا منهم مسأَلته ما نقص ذلك مما عنده ذرة واحدة إلا كما ينقص المخيط البحر إذا غمس فيه.
ولو أن أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك فى ملكه شيئاً ذلك بأنه الغنى الجواد الماجد، فعطاؤه [من] كلام وعذابه كلام: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرادَ شَيئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس:82].
ويشهده كما أخبر عنه أيضاً الصادق المصدوق حيث يقول: "إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِى لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَملُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَار وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سَبَحاتُ وَجْهِهِ ما أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ".
وبالجملة فيشهده فى كلامه فقد تجلى سبحانه وتعالى لعباده فى كلامه وتراءَى لهم فيه وتعرف إليهم فيه، فبعداً وتباً للجاحدين والظالمين: {أَفِى اللهِ شَك فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم: 10] إلا إِله إلا هو الرحمن الرحيم.
فإذا صارت صفات ربه وأسماؤه مشهداً لقلبه أنسته ذكر غيره وشغلته عن حب من سواه، وحديث: دواعى قلبه إلى حبه تعالى بكل جزءٍ من أجزاء قلبه وروحه وجسمه، فحينئذ يكون الرب سبحانه سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها. فبه يسمع وبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشى.
كما أخبر عن نفسه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: "ومن غلظ حجابه وكثف طبعه وصلب عوده فهو عن فهم هذا بمعزل، بل لعله أن يفهم منه ما لا يليق به تعالى من حلول أو اتحاد، أَو يفهم منه غير المراد منه فيحرف معناه، ولفظه: {وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور: 40]. وقد ذكرت معنى الحديث والرد على من حرفه وغلط فيه فى كتاب "التحفة المكية".
وبالجملة فيبقى قلب العبد- الذى هذا شأْنه- عرشاً للمثل الأعلى أى عرشاً لمعرفة محبوبه ومحبته وعظمته وجلاله وكبريائه، وناهيك بقلب هذا شأْنه فياله من قلب من ربه ما أَدناه ومن قربه ما أحظاه، فهو ينزه قلبه أن يساكن سواه أو يطمئن بغيره، فهؤلاءِ قلوبهم قد قطعت الأكوان وسجدت تحت العرش وأبدانهم فى فرشهم كما قال أبو الدرداءِ: إذا نام العبد المؤمن عرج بروحه حتى تسجد تحت العرش، فإن كان طاهراً أذن لها فى السجود، وإن كان جنباً لم يؤذن لها بالسجود وهذا والله أعلم هو السر الذى لأجله "أمر النبى صلى الله عليه وسلم الجنب إذا أراد النوم أن يتوضأ"، وهو إما واجب على أحد القولين، أو مؤكد الاستحباب على القول الآخر، فإن الوضوءَ يخفف حدث الجنابة ويجعله طاهراً من بعض الوجوه.
ولهذا روى الإمام أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم إذا كان أحدهم جنباً ثم أراد أن يجلس فى المسجد توضأ ثم جلس فيه، وهذا مذهب الإمام أحمد وغيره، مع أن المساجد لا تحل لجنب، [فدل]على أن وضؤه رفع حكم الجنابة المطلقة الكاملة التى تمنع الجنب من الجلوس فى بيت الله وتمنع الروح من السجود بين يدى الله سبحانه.
فتأمل هذه المسألة وفقهها واعرف مقدار فقه الصحابة وعمق علومهم، فهل ترى أحداً من المتأخرين وصل إلى مبلغ هذا الفقه الذى خص الله به خيار عباده وهم أصحاب نبيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم.
فإذا استيقظ هذا القلب من منامه صعد إلى الله بهمه وحبه وأشواقه مشتاقاً إليه طالباً له محتاجاً [له] عاكفاً عليه، فحاله كحال المحب الذى غاب عن محبوبه الذى لا غنى له عنه ولا بد له منه، وضرورته إليه أعظم من ضرورته إلى النفس والطعام والشراب، فإذا نام غاب عنه فإذا استيقظ عاد إلى الحنين إليه، وإلى الشوق الشديد [والحب] المقلق فحبيبه آخر خطراته عند منامه وأولها عند استيقاظه كما قال بعض المحبين لمحبوبه:
وآخر شيء أنت فى كل هجعة وأول شيء أنت عند هبوبي
فقد أفصح هذا المحب عن حقيقة المحبة وشروطها، فإذا كان هذا فى محبة مخلوق لمخلوق فما الظن فى محبة المحبوب الأعلى، فأُف لقلب لا يصلح لهذا ولا يصدق به، لقد صرف عنه خير الدنيا والآخرة.