قصة ابن عمر والراعي
ذكر هذه القصة ابن الجوزي رحمه الله في صفة الصفوة ( 2 / 188 )
قال نافع : خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له فوضعوا سفرة فمر بهم راع
فقال له عبد الله : هلم يا راعي فأصب من هذه السفرة.
فقال : إني صائم
فقال له عبد الله : في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت في هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وبين الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم
فقال الراعي : أبادر أيامي الخالية فعجب ابن عمر
وقال : هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها ونطعمك من لحمها ما تقطر عليه وتعطيك ثمنها
قال : إنها ليست لي إنها لمولاي
قال : فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب ...؟ !
فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول فأين الله ؟؟؟
قال : فلم يزل ابن عمر يقول : قال : الراعي فأين الله
فما عدا أن قدم المدينة فبعث إلى سيده فاشترى منه الراعي والغنم فأعتق الراعي ووهب له الغنم رحمه الله
صفة الصفوة ( 2 / 188)
فهذه القصة احتوت على كثير من الفوائد والعبر منها :
الحث على الكرم فعبد الله بن عمر لم يستأثر بالسفرة مع أصحابه دون الراعي وقد مر بهم بل دعاه ليأكل معهم وهكذا فإن الولد الكريم إذا أحضر طعاماً إلى المدرسة أو الرحلة فإنه يضيّف أصحابه ويعرض عليهم مشاركته فيه
وكذلك الصيام وأن الراعي على الرغم من أنه يعمل عملاً شاقاً وفي يوم حار لكنه يحتسب ذلك ليوم الحساب والجزاء
وكيف أن ابن عمر رضي الله عنهما أحب أن يختبر أمانة الراعي فأعجبه جوابه وقيل أنه بكى لقول الراعي وهو رافع إصبعيه إلى السماء فأين الله
وهنا درس عظيم الآخر وهو تنمية الصلة بالله وخشيته في الغيب والشهادة وغرس روح المراقبة في النفوس كالشاعر الذي قال :
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل سـاعـةً ولا أن ما تُخفي عليه يغيب
ونفس الغرض الذي أراده ابن السّماك:
يا مدمن الذنب أما تستحي واللهُ في الخلـوة ثانيكـا
غـرك من ربـك إمهالـه وستره طول مساويكا
وفي القصة العاقبة الحميدة لمن نال هذه الصفات فالراعي الذي سمعنا عنه في هذه القصة كان عاملاً يأكل من تعب يده برعي الغنم وكان مع ذلك عابداً يصوم في النهار حتى في الأيام الحارة وكان أميناً في عمله يراقب الله عز وجل في نفسه وأن مطلع عليه فصلته بالله قوية ولذلك رفض المكسب الحرام مع أنه قادر عليه ومتمكن منه ولم يستغل عمله وأمانته ولم يسرق منها فأعقبه الله الحسنى فعندما رأى عبد الله بن عمر تلك الصفات أعتقه واشترى له الغنم ووهبه له
فمن عبد يرعى غنم صاحبه إلى حر يملك حلالاً كثيراً
وإنه سنة عظمية يجب تربية الأبناء عليها (( من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ))
إنها قاعدة لو شربها أطفالنا منذ الصغر لجنبتهم الكثير من الحرام والمنكرات في الكبر
تربية الأبناء على تجنب الغش وتحريمه ؟
لما نهى عمر رضي الله عنه في خلافته عن خلط اللبن بالماء وخرج ذات ليلة في حواشي المدينة وأسند ظهره إلى جدار ليرتاح فإذا بامرأة تقول لابنتها إلا تمذقين اللبن بالماء فقالت الجارية كيف أمذق وقد نهى أمير المؤمنين عن المذق فقالت الأم فما يدري أمير المؤمنين , فقالت الجارية إن كان عمر لا يعلمه فإله عمر يعلم ما كنت لأفعله وقد نهى عنه.
فوقعت مقالتها من عمر فما أصبح دعا عاصماً ابنه فوصفها له ومكانها وقال اذهب يا بني فتزوجها فتزوجها عاصم بن عمر فولدت له بنتاً فتزوجها عبد العزيز بن مروان بن الحكم فأتت بعمر بن عبد العزيز.
ومن فوائد تلك القصة :
1- أن ما أثبته القرآن والسنة من الكتب السابقة نثبته أما خلافه فلا نصدقه ولا نكذبه إذا لم عرض النصوص .
2- اجتهاد السلف في تربية أبنائهم .
3- استشعار مراقبة الله في السر والعلن .
4- عدم التحرج من تقديم النصيحة للوالدين .
5- اختيار الزوج والزوجة الصالحة للبنت والابن .