كمال علم الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الخطبة الأولى:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وراقبوه في السر والعلانية، واعلموا أنكم ملاقوه ثم إليه تحشرون. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها الإخوة في الله: يواجه الناسُ اليوم في حياتهم تقدماً هائلاً, وسرعةً فائقةً في جمع المعلومات وحصرها, وتقصّي الحقائق, واستباق الأمور بما هيأ الله تعالى لعباده من أسبابٍ، وسخَّر لهم من وسائلِ المعرفةِ, وفتحَ عليهم من أبوابِ التقنيةِ الحديثة التي علَّمها للبشر؛ حتى إن الإنسان ليقفُ أمام هذه القضايا حائراً مذهولاً من هذا الرصد وذلك التتبع لهذا العالم.
ومع هذا التوسع العلمي الرهيب, والانفتاح الكبير في إحصاء المعلومات الخاصة والعامة, القريبة والبعيدة، يبقى أن الصُنع البشري -مهما تباهى بسعة علمه ومعلوماته ضعيف في جانب عظيم علم الخالق سبحانه، (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء:85].
ومن دلائل الواقع اليوم التي تدل على ضعف علم البشر بجانب علم الله سبحانه, ما تداولته وسائل الإعلام عن طائرة في هذا الكون لا يُمكِنُ أن تختفي عن أجهزة الرصد, وعن الأنظار، في ظن علم البشر, تحمل عليها مئات البشر, في لحظةٍ تختفي عن علم البشر، فتقفُ آلافُ المعدات البحرية والجوية والأقمار الصناعية بمختلف أنواعها، ومجموعاتُ الدولِ التي تتباهى بأنها تملكُ أعلى أنواعِ التقنية العلمية الحديثة، عاجزةً حائرةً أمام سر اختفائها!.
إن هذا يدل على ضعف الإنسان، ومحدودية قدراته، فمهما بلغ من القوة والمهارة والتطور فهو ضعيف، يزداد ضعفه في حالة مظنة القوة, ويزداد عجزه في حالة مظنة القدرة.
وفي المقابل، تبرز القدرة الإلهية العظيمة لخالق الكون ومصرف الأمور، فتأمل يا عبد الله في عظيم علم الله سبحانه, الذي علمُه من صفات ذاته, قد أحاط بكل شيء علما، لا تخفى عليه خافية، يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون.
إن جميع الخلائق لا يعلمون إلا ما علمهم الله من علمه، لا يعلم أحد شيئا إلا ما علمه العليم الخبير.
إن أعظم الخلائق من الملائكة والرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم وقفوا عاجزين أمام علم الله سبحانه فقالوا: (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة:32].
فسبحان من وصف نفسه بأنه (العليم الخبير)، (العليم الحكيم)، (السميع العليم)!.
سبحانه! ما أوسع علمه! قال سبحانه عن نفسه: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام:59].
تأمل في بعض معاني هذه الآية: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا)، فكلُّ شجرةٍ وكلُّ نباتٍ في الكون كلِّه، لو سقطت ورقةٌ منه علمها اللهُ عز وجل.
بل أعظم من هذا، قوله سبحانه: (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، أي: إنه كتبه في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كتب أنه ستسقط ورقة من تلك الشجرة في ظلمة الليل، في تلك البقعة من الأرض، وهو بعدُ لم يخلق الشجرة، بل لم يخلق الأرض كلها!.
وفي الصحيحين، عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة موسى عليه السلام مع الخضر قال: "وجاءَ عُصفورٌ فوقَع على حرْف السفينة، فنقَر في البحر نقرةً، فقال له الخضر: ما عِلمي وعلمك وفي رواية: وعِلم الخلائق في عِلم الله إلا مِثل ما نقَصَ هذا العُصفورُ من هذا البحْر", فلا إله إلا هو! (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) [طه:98].
أيها المسلمون: إن الأمر الأهم والأعظم من ذلك كله, وهو الذي أحقُّ بالتذكيرِ والتذكرِ, والعملِ دائماً, ذلك الاحصاءُ الدقيقُ العام في الكتاب الذي عند الله الذي لا يغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها, كما قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [يس:12]، أي: حفظناه وعددناه وبيناه.
وقال تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) [النبأ:29]، فهذا الإحصاء من الله شامل لكل ما يعمله العبد من قولٍ أو فعل، شامل لكل صغير وكبير، ظاهر أو خفي.
وقد ينسى الإنسان ما قاله وما عمله في الدنيا، لكن الله قد أحصاه وكتبه في اللوح المحفوظ, وأمر الملائكة الكرام الحفظة بكتابته.
ولئن كان الناس اليوم يندهشون من سرعة انتقال المعلومات وإظهارها, ويتباهون في تداولها وسرعتها ودقة حفظها في أجهزة التقنية, فعليهم أن يتذكروا كمال علم ربهم, وإحصاءه, وكتابته, فقد أحاط بكل شيء علماً، ووصف نفسه سبحانه بقوله: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [البقرة:202]، قال مجاهد رحمه الله: أي: سريع الإحصاء.
بل؛ ما من عمل عمله الإنسان، خيراً كان أم شراً، إلا وسجله الله تعالى له أو عليه وأحصاه، لا فرق في ذلك بين عمل الإنسان المباشر وهو على قيد الحياة, وبين الآثار المترتبة على عمله بعد الوفاة, سواء كان ذلك الأثر من قبيل الحسنات أو من قبيل السيئات, فكلما تجددت منفعة الأثر الحسن كتب الله لصاحبه من الحسنات بقدرها, وكلما تضاعفت مضرة الأثر السيئ كتب الله لصاحبه من السيئات بقدرها.
فقد أخبر الله تعالى عباده أنه يعلم جميع أحوال الخلائق, في كل ساعة وآن ولحظة, وأنه لا يعزب عن علمه وبصره مثقالُ ذرة.
أخبر سبحانه عن عموم مشاهدته واطلاعه على جميع أحوال العباد, في حركاتهم وسكناتهم, (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس:61].
إن في هذا لَدعوةً لمراقبة الله على الدوام في كل قول أو فعل، فعلى الإنسان أن يحفظ نفسه من كل عمل وقول سيء قبل أن يندم عليه في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
فالله سبحانه قد أحاط علمه بكم, مطلع عليكم، مُحْصٍ لأعمالكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…
الخطبة الثانية:
اتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أنه، ومع انتشار المعرفة, ووسائل التقنية لدى البشر, وسرعة نقلها، وحفظها, وإحصائها, ونشرها, أنها ستبقى بما يُحفظ فيها أثراً شاهداً لك أو عليك.
فيجب على الإنسان أن يكون منها دائماً في حيطة وحذر, وخوفٍ وترقب؛ ليحافظ على نفسه ومكانته من أن يُنسب إليه شيء لم يقله, أو يُفسر كلامه على غير مراده.
يجب على المرء أن يتمثل دائماً قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ولا تكلم بكلام تعتذر منه غدا" أخرجه أحمد وابن ماجه, وصححه الألباني.
فلا تعمل عملا ولا تقل قولا يدعوك إلى الاعتذار بعد نشره وانتشاره لدى البشر, لذلك ترون من يُبادرُ إلى نفي خبر نُسب إليه ويبطله بحجج وبراهين.
وحين يُدرك الإنسانُ هذا المعنى الواقعي فإنه يحتاط لنفسه من إطلاق الكلام في حدثٍ أو مناسبة أو اجتماع أو لقاء, بل إنه يحرص على وزن ما يتكلم به, وضبط ما يتلفظ به؛ لئلا يُلام عليه فيما بعد.
ولا ريب أن هذا أمرٌ محمود, وهو عينُ العقل والرشد, أن يزن الإنسانُ الكلمةَ التي يقولهُا, والفعل الذي يفعله, ولا يلقي كلاماً, أو يفعل فعلاً ثم يندمُ عليه بعد ذلك في الدنيا والآخرة.
فحاسبوا أنفسكم, وراقبوا ربكم في أقوالكم وأعمالكم, وأدوها على وجه النصيحة والاجتهاد فيها.
وإياكم وما يكره الله تعالى! فإنه مطلعٌ عليكم، عالمٌ بظواهركم وبواطنكم, لا يغيبُ عن علمه وسمعه شيءٌ من أحوالكم, قد أحاط علمه وجرى قلمه بكل شيء.
قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين