كيف نتلقى القرآن؟!
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن صار على نهجهم واهتدى بهداهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأخ المؤمن! كيف نحيا بالقرآن؟ وقبل الجواب ينبغي أن نعني بقضية مهمة في هذا الموضوع، وهي القضية التي تتمثل في الثقة المطلقة في هذا القرآن، وبما فيه من حقائق متنوعة، سواءٌ أكانت أخباراً عن الماضي أو المستقبل، أم أموراً تشريعية، أم آداباً كتب الله لها الكمال والبقاء والثبات، أم مسائل عقدية متنوعة تتعلق بالله واليوم الآخر وما بين ذلك، أم إشارات عملية تتعلق بالكون والإنسان ونحو ذلك.
ونستكمل اليوم جانباً من الجواب عن هذا السؤال الكبير: كيف تحيا أمة الإسلام بالقرآن؟ ولذا نقول: ينبغي أن نعيش مع القرآن تلاوة وتعلماً وتعليماً وكأننا نحن المخاطبون به بكل ما فيه من أمثال وقصص وأحكام وآداب، فنقرأ القرآن ونحن على ثقة مطلقة به، نقرؤه على أنه موجه إلينا، كما أنه موجه إلى من قبلنا وإلى من سيأتي بعدنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أيها الأخ المسلم! إن من أكثر الأخطاء التي نقع فيها أحياناً ونحن نتعامل مع القرآن شعورنا بأن هذا القرآن خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقط؛ حيث نزل عليه القرآن مفرقاً حسب الأحوال والحوادث والمناسبات، ثم لما جمع القرآن صار وكأنه يحكي تاريخاً سابقاً وحوادث ماضية، وليس لنا من ذلك إلا مجرد أخذ العبرة من الحادثة وملابستها والآيات التي نزلت فيها كما نأخذ العبر من بعض حوادث التاريخ.
إن هذا من أكبر أخطائنا ونحن نتعامل مع القرآن العظيم، نتعامل معه على أنه قرآن نزل في حوادث خاصة، وانتهت تلك الحوادث والأحوال والمناسبات، أما نحن فنحن في عهد جديد وعصر جديد، ولا نتلو القرآن، ولا نتعلم القرآن على أنه يعالج أحوالنا ومشاكلنا نحن أيضاً.
ومع أن معرفة أسباب النزول والمناسبات التي نزلت فيها بعض الآيات من صلب وقواعد التفسير وفهم كتاب الله تعالى على الوجه الحق إلا أن الاقتصار على هذا -إذ العبرة بعموم اللفظ كما تعلم- بل حصر القرآن كله في أنه نزل على قوم آخرين سابقين أوجد فجوة كبرى بيننا وبين القرآن والتعامل مع القرآن والحياة بالقرآن بكل صوره وآياته وقصصه ومواعظه وأوامره وأحكامه.
إن هذه قضية يجب أن نقف معها طويلاً؛ لأن من الواجب أن نقرأ القرآن وأن نتلقاه كما تلقاه الصحابة رضي الله عنهم، وكما كان يتلقاه سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى، نتلقاه أفراداً، ونتلقاه أمةً، ونتلقاه من خلال الأحداث التي نمر بها في كل يوم، وفي كل فترة، وفي كل مرحلة زمنية تمر بها أمة الإسلام.
نتلقاه ونحن نواجه كل يوم أنواع الشهوات والشبهات، نتلقاه ونحن نربي نفوسنا الجامحة المائلة إلى الدنيا وشهواتها وملذاتها، نتلقاه ونحن نعبد الله تعالى كما يحب ويرضى في عباداتنا وأذكارنا وفرائضنا ونوافلنا.
نتلقاه ونحن نجاهد النفس الأمارة بالسوء التي تقعد بنا في كل يوم عن طاعة الله والدعوة إلى دينه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله.
نتلقاه ونحن نواجه شياطين الجن والإنس الذين يسعون جاهدين بشتى الوسائل في غوايتنا وإضلالنا، نتلقاه ونحن نواجه الأعداء من المشركين واليهود والنصارى وأذنابهم وغيرهم من الكفار وهم يشنون حرباً على الإسلام على مختلف الأصعدة، وبأنواع الأساليب.
نتلقاه ونحن نعاني من النفاق المتسلل داخل صفوف المسلمين، يظهر الإسلام ويبطن الكفر والزندقة، ويبطن حرب الله ورسوله وعباده المؤمنين، نتلقاه في مجاهدة النفس من الداخل، وفي مجاهدة الأعداء من الخارج، نتلقاه في زمن الغربة والفتن التي أخبرنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمنا كيف نخرج منها.
نتلقاه والمسلمون في المشارق والمغارب يواجهون الأذى والابتلاء على مختلف صنوفه وأشكاله، نتلقاه والمسلمون تتقلب بهم الأحوال بين القوة والضعف، والقلة والكثرة، والأمن والخوف في المشارق والمغارب، نتلقاه ونحن نعبد الله تعالى في أماكن وأزمنة نعبد الله سبحانه وتعالى بمختلف درجاتها الفاضلة.
نتلقاه ونحن نربي الأسرة داخل البيت المسلم، ونحصنها من وسائل التدمير والفساد، نتلقاه في حلق التعليم رسمية وخيرية، ابتدائية وجامعية، على مستوى الأمية والمتعلمين، نتلقاه في مجالات تطبيق أحكام القرآن لا نخاف في الله لومة لائم ولا اعتراض معترض في أحكام القرآن، وفي الحدود، وفي العلاقات الاجتماعية والأسرية، وفي القضايا السياسية والعسكرية، وفي أمورنا الاقتصادية وغيرها.
نتلقاه في جميع شئون الحياة؛ لأنه كتاب ربنا أنزله الله علينا رحمة وهدى للعالمين، نتلقاه ونحن نطلب الشفاء به على الوجه المشروع لجميع أمراضنا النفسية والعضوية والاجتماعية.
نتلقى هذا القرآن ونحن أمة إسلامية لا تعرف مصدراً غير القرآن في التربية والأحكام والآداب والأخلاق والتوجيهات وغيرها، لا تعرف لها مصدراً إلا هذا القرآن العظيم، نتلقاه بعزة المؤمنين وهم يحملون هذا القرآن فوق أيديهم ليقولوا للعالمين جميعاً مشرقاً ومغرباً: إن معنا ما يكفينا ويحيينا.
نتلقاه في كل شأن من شئون الحياة، وكأننا اليوم مخاطبون به كما خوطب به من قبلنا، ونتلقاه كما تلقوه بنفس المشاعر والإيمان، وأعمال القلوب وخشوعها وخضوعها لمن تكلم بالقرآن وأنزله رحمة للعالمين.
إن هذا بيت القصيد في قضيتنا الكبرى (كيف نحيا بالقرآن)، لن نحيا بالقرآن ونحن إنما نقدس أوراقه كقرابين، لا نحيا بالقرآن ونحن نتخذه قراطيس كما اتخذه اليهود قراطيس: قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام:91].
لن نحيا بالقرآن ونحن ننشغل ونعتمد في أمور حياتنا على غير القرآن العظيم، إن حياتنا بالقرآن مرهونة بأن نرجع إلى هذا القرآن في آياته وسوره وأحكامه، وكأنه يتنزل علينا هذه اللحظة، نتلقاه نعالج به مشاكلنا في كل وقتٍ وآن، في كل حادثة ووقعة، نتلقى هذا القرآن على أنه كلام رب العالمين وكفى.
نتلقاه على أنه أحكام قاطعة من عند العليم الخبير وكفى، نتلقاه على أنه لا حياة لنا ولا عزة ولا رفعة إلا بهذا القرآن العظيم، نتلقاه على أنه توجيهات حاضرة تعالج أوضاعنا ومشاكلنا، ونبني عليه خطط مستقبلنا، نتلقاه وكأننا نخاطب به أول مرة، وكلنا ثقة وتعظيم وتصديق بهذا القرآن المبين.
يتلقاه المؤمن في خاصة نفسه وشجونه وأحزانه ورضاه وفرحه، وزيادة إيمانه ونقصه، وفي مشاكله الصغيرة المحدودة، وفي مجاهدته لنفسه وهواه، وتتلقاه الأمة الإسلامية كلها بمواقفها وجهادها وأحكامها وعلاقتها، كلهم يتلقونه بتلك الروح والإيمان العظيم الذي به تلقى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن، فكان من أمرهم ما كان.
إن هذه الأمة قد أكرمها الله تعالى بحفظ هذا القرآن وبقائه، وتلك نعمة ومنة كبرى، فما علينا إلا أن نتوكل على ربنا، وأن نعود إلى هذا القرآن عودة حقيقية لا شكلية، عودة جادة لا تردد فيها، عودة عملية تنبثق من كل واحد منا في خاصة نفسه، ومن ولاه الله تبارك وتعالى ولاية من أهل أو ولد أو غير ذلك.
نعود إلى هذا القرآن عودة عملية، نعود لنشبع منه، ولنتزود منه، ولنرجع إليه، ولنعالج به شتى أمراضنا وأكدارنا وأحزاننا، لنعالج به شتى الأمراض الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الأمراض.
نعود إلى هذا القرآن بخلاصة شديدة هي أن نعود إليه كما عاد إليه سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى، فكانوا أمة ظاهرة في العالمين.