كيفية دخول الشر فى القضاءِ الإِلهى، وقبل الخوض فيه لا بد من تقديم مقدمتين


فريق عمل الموقع

 

كيفية دخول الشر فى القضاءِ الإِلهى، وقبل الخوض فيه لا بد من تقديم مقدمتين:

 

المقدمة الأُولى- الأُمور التى يقال لها: إِنها شر إِما أن تكون أموراً عدمية، أو أُموراً وجودية. فإِن كانت أموراً عدمية فهى على أقسام ثلاثة: لأنها إما أن تكون عدماً لأمور ضرورية للشيء فى وجوده مثل عدم الحياة، وإما أن تكون عدماً لأُمور نافعة قريبة من الضرورة كالعمى أو أن تكون كذلك كعدم العلم بالفلسفة والهندسة. وأما الأمور الوجودية التى يقال لها شرور فهى كالحرارة المفرقة لاتصال العضو.

 

 

واعلم أن الشر بالذات هو عدم ضروريات الشيء وعدم منافعه، مثل عدم الحياة وعدم البصر، فإِن الموت والعمى لا حقيقة لهما إِلا أَنهما عدم الحياة وعدم البصر، وهما من حيث هما كذلك شر، [فإذا] ليس لهما اعتبار آخر بحسبه يكونان شرين. وأما عدم الفضائل المستغنى عنها- مثل عدم العلم بالفلسفة- فظاهر أَن ذلك ليس بشر، وأما الأُمور الوجودية فإِنها ليست شروراً بالذات بل بالعرض، من حيث أنها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة، ويدل عليه أنَّا لا نجد شيئاً من الأفعال التى يقال لها شر إِلا وهو كمال بالنسبة إلى الفاعل، وأما شريته فبالقياس إلى شيء آخر، فالظلم مثلاً يصدر عن قوة ظلامة للغلبة وهى القوة الغضبية والغلبة هى كمالها وفائدة خلقتها، فهذا الفعل بالقياس إليها خير، لأنها إن ضعفت عنه فهو بالقياس إليها شر وإنما كان شراً للمظلوم لفوات المال وغيره عنه، والنفس الناطقة كمالها الاستيلاءُ على هذه القوة فعند قهر الغضبية يفوت النفس ذلك الاستيلاءُ ولا جرم كان شراً لها. وكذلك النار إذا أحرقت فإن الإحراق [كمالها] ولكنها شر بالنسبة إلى من زالت [سلامته] بسببها.

 

 

وكذلك القتل وهو استعمال الآلة القطاعة فى قطع رقبة إنسان، فإن كون الإنسان قوياً على استعمال الآلة ليس شراً له بل خيراً، وكذلك كون الآلة قطاعة هو خير لها، وكذلك كون الرقبة قابلة للانقطاع كل ذلك خيرات، ولكن القتل شر من حيث أنه متضمن لزوال الحياة، فثبت بما ذكرنا أَن الأُمور الوجودية ليست شرور بالذات بل بالعرض. والله أعلم.

 

 

المقدمة الثانية: أن الأشياء إما أن تكون مادية، أو لا تكون، فإن لم تكن مادية لم يكن فيها ما بالقوة فلا يكون فيها شر أصلاً، وإن كانت مادية كانت فى معرض الشر، وعروض الشر لها [إما أن يكون فى ابتداء تكونها أو بعد تكونها] أما الأول فهو أن تكون المادة التى [يتكون] إنساناً أو فرساً يعرض لها من الأسباب ما يجعلها رديئة المزاج رديئة الشكل والخلقة، فرداءة مزاج ذلك الشخص ورداءة خلقه ليس لأن الفاعل حرم بل لأن المنفعل له لم يقبل، وأما الثانى وهو أن يعرض الشر للشيء وطروءُ طاريء عليه بعد تكونه فذلك الطاريء إِما شيء يمنع المكمل من الإكمال مثل تراكم السحب وإظلال الجبال الشاهقات إِذ صار مانعاً من تأْثير الشمس فى [النبات]، وإما شيء يفسد مثل البرد الذى يصل إلى النبات بسبب ذلك استعداده للنشوءِ والنمو.

 

وإذا عرفت ذلك فنقول: قد بينا أَن الشرّ بالحقيقة إِما عدم ضروريات الشيء، وإِما عدم منافعه. [فنقول]: [ الموجود ] إِما أن يكون خيراً من كل الوجوه، وشراً من كل الوجوه أَو خيراً من وجه وشراً من وجه. وهذا على تقدير أقسام: فإِنه إِما أَن يكون خيره غالباً على شره، أو يكون شره غالباً على خيره، أَو متساوياً خيره وشره، فهذه أقسام خمسة.

 

 

أما الذى يكون خيراً من كل الوجوه وهو موجود- [أما] الذى يكون كذلك لذاته- فهو الله تبارك وتعالى، وأما الذى يكون [خيره] لغيره فهو العقول والأَفلاك، لأن هذه الأمور ما فاتها شيء من ضروريات ذاتها ولا من [كمالاتها] أما الذى كله شر أو الغالب فيه أَو [المتساوي] فهو غير موجود لأن كلامنا فى الشيء بمعنى عدم الضروريات والمنافع، لا بمعنى عدم الكمال الزائد، [وإذا عنينا بالشر] ذلك فلا شك أن ذلك مغلوب والخير غالب لأَن الأَمراض وإن كثرت إِلا أَن الصحة أَكثر منها، فالحرق والغرق والخسف، وإن كانت قد تكثر إِلا أن السلامة أكثر منها.

 

 

فأما الذى يكون خيره غالباً على شره فالأولى فيه أن يكون موجوداً لوجهين: الأَول أَنه إِن لم يوجد فلا بد وأَن يفوت الخير الغالب، وفوت الخير الغالب شر غالب، فإِذا فى عدمه يكون الشر أغلب من الخير، وفى وجوده يكون الخير أَغلب من الشر، ويكون وجود هذا القسم أولى، مثاله النار: فى وجودها منافع [كثيرة وأيضاً مفاسد كثيرة مثل إحراق الحيوانات، ولكننا إذا قابلنا منافعها] بمفاسدها كانت مصالحها أكثر بكثير من مفاسدها، ولو لم توجد لفاتت تلك المصالح، وكانت مفاسد عدمها أَكثر من مصالحها فلا جرم وجب إيجادها وخلقها.

 

 

الثانى- وهو الذى يكون خيره ممزوجاً بالشر- ليس إلا الأُمور التى تحت كرة القمر فلا شك، أَنها معلولات العلل العالية، فلو لم يوجد هذا القسم لكان يلزم من عدمها عدم عللها الموجبة لها، وهى خيرات محضة، فيلزم من عدمها عدم الخيرات المحضة وذلك شر محض، فإِذاً لا بد من وجود هذا القسم.

فإِن قيل: فلم لم يخلق الخالق هذه الأشياء عرية عن كل الشرور؟ فنقول: لأَنه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الأول، وذلك مما قد فرغ منه.

وبقى فى العقل قسم آخر وهو: الذى يكون خيره غالباً على شره، وقد بينا أن الأولى بهذا القسم أن يكون موجوداً. قال: وهذا الجواب لا يعجبنى لأَن لقائل أَن يقول: إِنّ جميع هذه الخيرات والشرور إِنما توجد باختيار الله وإرادته، مثلاً الاحتراق الحاصل عقيب النار ليس موجباً من النار، بل الله تعالى اختار خلقه عقيب مماسة النار، وإِذا كان حصول الاحتراق عقيب مماسة النار باختيار الله وإِرادته فكان يمكنه أَن يختار خلق الإِحراق عندما يكون خيراً ولا يختار خلقه عندما يكون شراً، ولا خلاص عن هذه المطالبة إِلا ببيان كونه سبحانه فاعلاً بالذات لا بالقصد والاختيار، ويرجع حاصل الكلام فى هذه المسألة إلى مسأَلة القدم والحدوث.

 

 

قلت: لمّا لم يكن عند الرازى إِلا مذهب الفلاسفة المشائين، والقائلين [بالموجب بالذات أو مذهب القدرية بالمعتزلة القائلين] بوجوب رعاية الصلاح أَو الإصلاح، أَو مذهب الجبرية نفاة الأَسباب والعلل والحكم، وكان الحق عنده متردداً بين هذه المذاهب الثلاثة، فتارة يرجح مذهب المتكلمين، وتارة مذهب المشائين، وتارة يلقى الحرب بين الطائفتين ويقف فى النظارة، وتارة يتردد بين الطائفتين، وانتهى إِلى هذا المضيق ورأَى أَنه لا خلاص له منه إلا بالتزام طريق الجبرية- وهى غير مرضية عنده، وإِن كان فى كتبه الكلامية يعتمد عليها ويرجع فى مباحثه إليها- أو طريق المعتزلة القائلين برعاية الصلاح وهى متناقضة غير مطردة، لم يجد بداً من تحيزه إِلى أَعداء الملة القائلين بأَن الله تعالى لا قدرة له ولا مشيئة ولا اختيار ولا فعل يقوم به.

 

 

ومعلوم أن هذه المذاهب بأسرها باطلة ومتناقضة وإن كان بعضها أبطل من بعض، وإنما ألجأَه إِلى التزام القول بإِنكار الفاعل المختار فى هذا المقام تسليمه لهم الأُصول الفاسدة والقواعد الباطلة التى قادت إِلى التزام بعض أَنواع الباطل ولو أَعطى الدليل حقه، وضم ما مع كل طائفة من الحق إِلى حق الطائفة الأُخرى، وتحيز إِلى ما جاءت به الرسل على علم وبصيرة، وهو تقرير لما [جاءوا] به بجميع طرق الحق، لتخلص من تلك المطالبات مع إقراره بأَن رب العالمين فعال لما يريد يفعل بمشيئته وقدرته وحكمته، وأَن له المشيئة النافذة [والحكمة البالغة وأن تقدير تجريد النار عما خلقت] عليه من الإِحراق، والماءِ عما خلق عليه، والرياح والنفوس البشرية عما هيئت له وخلقت عليه، مناف للحكمة المطلوبة المحبوبة للرب الله سبحانه، وأَن هذا تقرير لعالم آخر وتعطيل الأسباب التى نصبها الله سبحانه مقتضيات لمسبباتها، وأَن تلك الأَسباب مظهر حكمته وحمده وموضع تصرفه لخلقه وأمره، فتقدير تعطيلها تعطيل للخلق والأمر، وهو أَشد منافاة للحكمة وإبطالاً لها، واقتضاءُ هذه الأسباب لمسبابتها كاقتضاء الغايات لأسبابها، فتعطيلها [عنها] قدح فى الحكمة وتفويت لمصلحة العالم التى عليها نظامه وبها قوامه.

 

 

ولكن الرب سبحانه قد يخرق العادة ويعطلها عن مقتضياتها أحياناً إِذا كان فيه مصلحة راجحة على مفسدة فوات تلك المسببات، كما عطل النار التى أُلقى فيها إِبراهيم وجعلها عليه برداً وسلاماً عن الإِحراق لما فى ذلك من المصالح العظيمة، وكذلك تعطيل الماءِ عن إِغراق موسى وقومه وعما خلق عليه من الإِسالة والتقاء أَجزائه بعضها ببعض هو لما فيه من المصالح العظيمة والآيات الباهرة والحكمة التامة التى ظهرت فى الوجود وترتب عليها من مصالح الدنيا والآخرة ما ترتب، فهكذا سبحانه سائر أفعاله، مع أنه أشهد عباده بذلك أنه مسبب الأسباب وأن الأسباب خلقه وملكه وأنه يملك تعطيلها عن مقتضياتها وآثارها، وأن [جعلها] كذلك لم يكن من ذاتها وأنفسها، بل هو الذى جعلها كذلك وأودع فيها من القوى والطبائع ما اقتضت به آثارها، أنه إِن شاء أن يسلبها إياها سلبها لا كما يقول أعداؤه من الفلاسفة والطبائعيين وزنادقة الأطباءِ أنه ليس فى الإِمكان تجريد هذه الأسباب عن آثارها وموجباتها ويقولون: لا تعطيل فى الطبيعة، وليست الطبيعة عندهم مربوبة مقهورة تحت قهر قاهر وتسخير مسخر يصرفها كيف يشاء، بل هى المتصرفة المدبرة، ولا كما يقول من نقص علمه ومعرفته بأسرار مخلوقاته وما أودعها من القوى والطبائع والغرائز وبالأسباب التى ربط بها خلقه وأَمره وثوابه وعقابه، فجحد ذلك كله ورد الأمر إلى مشيئة محضة مجردة عن الحكمة والغاية وعن ارتباط العالم بعضه ببعض ارتباط الأسباب بمسبباتها والقوى بمحالها.

 

 

ثم المحذور اللازم من إِنكار الفاعل المختار الفعال لما يريد بقدرته ومشيئته فوق كل محذور، فإِن القائل بذلك يجعل هذه الشرور بأسرها لازمة له لزوم الطفل لحامله والحرارة للنار ولا يمكنه دفعها ولا تخليص الحرارة منها، فهم فروا من إضافة الشر إلى خلقه [ومشيئته واختياره ثم ألزموه إياه وأضافوه إليه إضافة لا يمكن إزالتها مع تعطيل قدرته ومشيئته وخلقه] وعلمه بتفاصيل أحوال عباده، وفى ذلك تعطيل ربوبيته للعاملين، ففروا من محذور بالتزام عدة محاذير، واستجاروا من الرمضاءِ بالنار.

 

 

وهذا كما نزهه الجهمية عن استوائه على عرشه وعلوّه على مخلوقاته، فإنه فرار من التحيز والجهة، ثم جعلوه سبحانه فى كل مكان مخالطاً للقاذورات والأماكن المكروهات وكل مكان يأْنف العاقل من مجاورته، ففروا من تخصيصه بالعلوّ فعمموا به كل مكان.

ولما علمت الفرعونية بطلان هذا المذهب فروا إلى شر منه فأخلوا داخل العالم وخارجه منه البتة وقالوا: ليس فوق العرش رب يعبد، ولا إِله يُصَلَى له ويسجد، ولا ترفع إليه الأَيدى، ولا يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح، ولا عرج بمحمد صلى الله عليه وسلم إليه بل عرج به إلى عدم صرف، ولا فرق بالنسبة إِليه بين العرش وبين أَسفل السافلين، ومن المعلوم أَنه ليس موجوداً فى أَسفل سافلين، فإذا لم يكن موجوداً فوق العرش فهذا إعدام له البتة وتعطيل لوجوده.

 

 

فلما [رأت] الحلولية وإِخوانهم من الاتحادية أشباه النصارى ما فى ذلك من الإِحالة قالوا: بل هو هذا الوجود السارى فى الموجودات [الظاهر] فيها على اختلاف صورها وأنواعها بحسنها فهو فى الماء ماءٌ، وفى الخمر خمر، وفى النار نار، وهو حقيقة كل شيء وماهيته، فنزهوه عن استوائه على عرشه وجعلوه وجود كل موجود خسيس أو شريف، صغير أَو كبير طيب أَو غيره، تعالى الله عما يقول أعداؤه علواً كبيراً، وكذلك القائلون بقدم العالم نزهوه عن قيام الإرادات والأَفعال المتجددة به، ثم جعلوا جميع الحوادث لازمة له لا ينفك عنها، ونزهوه عن إرادته [لخلق العالم وأن يكون صدوره عن مشيئته وإرادته] وجعلوه لازماً لذاته كالمضطر إلى صدوره عنه.

 

وكذلك المعتزلة الجهمية نزهوه عن صفات كماله لئلا يقعوا فى تشبيه، ثم شبهوه بخلقه فى أَفعاله، وحكموا عليه بحسن ما يحسن منهم وقبح ما يقبح منهم، مع تشبيه فى سلب صفات كماله بالجمادات والناقصات، وأن من فر من إثبات السمع والبصر والكلام والحياة له- لئلا يشبّهه- فقد شبهه بالأَحجار التى لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم.

ومن عطله عن صفة الكلام لما يلزم من تشبيه بزعمه فقد شبهه بأصحاب الخرس، والآفات الممتنع منهم الكلام، ومن نزهه عن نزوله كل ليلة إلى سماءِ الدنيا، ودنوه عشية عرفة من أَهل الموقف، ومجيئه يوم [القيامة] للقضاء بين عباده فراراً من تشبيهه بالأجسام فقد شبهه بالجماد الذى لا يتصرف ولا يفعل ولا يجيء ولا يأْتى ولا ينزل، ومن نزهه عن أن يفعل لغرض أو حكمة أو لداع إلى الفعل حذراً من تشبيهه بالفاعلين لذلك فقد شبهه بأهل السفه والعبث [الذين] لا يقصدون بأفعالهم غاية محمودة ولا غرضاً مطلوباً محبوباً، ومن نزهه عن خلق أفعال عباده وتصرفه فيهم بالهداية والإضلال وتخصيص من شاءَ منهم بفضله أو منعه لمن شاء حذراً من الظلم بزعمه فقد وصفه بأقبح الظلم والجور حيث يخلد فى [أطباق] النيران من استنفد عمره كله فى طاعته إذا فعل قبل الموت كبيرة واحدة فإنها تحبط جميع تلك الطاعات وتجعلها هباءً منثوراً، ويخلد فى جهنم مع الكفار ما لم يتب منها، إلى غير ذلك من أصولهم الفاسدة: {فَهَدى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَاللهُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].

 

 

"قاعدة": كمال العبد وصلاحه يتخلف عنه من إحدى جهتين: إما أَن تكون طبيعته يابسة قاسية غير لينة منقادة ولا قابلة لما به كمالها وفلاحها، وإما أن تكون لينة منقادة سلسة القياد، لكنها غير ثابتة على ذلك، بل سريعة الانتقال عنه كثيرة التقلب، فمتى رزق العبد انقياداً للحق وثباتاً عليه فليبشر، فقد بشر بكل خير وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ.

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ كيفية دخول الشر فى القضاءِ الإِلهى، وقبل الخوض فيه لا بد من تقديم مقدمتين

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day