ما أوتى عبد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته عند الله وان كان عليه كريما


محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

قالوا وحق الغنى أعظم من أن يقوم العبد بشكره وقد روى الترمذى فى جامعه من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه أن النبى قال ليس لابن آدم حق فى سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يوارى به عورته وجلف الخبز والماء قال هذا حديث حسن صحيح وفى صحيح مسلم عن أبى أمامة رضى الله عنه قال قال رسول الله: "يا ابن آدم انك ان تبذل الفضل خير لك وأن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى".

 

 

وفى صحيحه أيضا من حديث أبى نضرة عن أبى سعيد رضى الله عنه قال بينما نحن فى سفر مع رسول الله اذ جاء رجل على راحلة له فجعل يضرب يمينا وشمالا فقال رسول الله: "من كان معه فضل من ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان عنده فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له قال فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا فى فضل".

قالوا فهذا موضع النظر فى تفضيل الغنى الشاكر ببذل الفضل كله وأما غنى يمتع بأنواع الفضل ويشكر بالواجب وبعض المستحب فكيف يفضل على فقير صابرا راض عن الله فى فقره قالوا وقد أقسم رسول الله لأصحابه وهم أئمة الشاكرين أنه لا يخاف عليهم الفقر وانما يخاف عليهم الغنى ففى الصحيحين من حديث عمرو بن عوف وكان شهد بدرا أن رسول الله بعث أبا عبيدة بن الجراح الى البحرين يأتى بجزيتها وكان رسول الله صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمى فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الانصار بقدوم أبى عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله فلما صلى رسول الله انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله حين رآهم ثم قال: "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشئ من البحرين فقالوا أجل يا رسول الله قال أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكنى أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوا فيها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم".

 

 

 

قال الامام أحمد حدثنا روح حدثنا هشام عن الحسن قال قيل لأبى ثعلبة الخشنى أين دنياكم والتى كنتم تعدون يا أصحاب محمد قال ليبشر الآخر بدنيا قد ظلت تأكل والله الذى لا اله الا هو الايمان كما تأكل النار الحطب الجزل وقال أحمد حدثنا يزيد حدثنا هشام بن حسان قال سمعت الحسن يقول: "والله ما أحد من الناس بسط الله له دنياه فلم يخف أن يكون قد مكر به فيها الا كان قد نقص علمه وعجز رأيه وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها إلا كان قد نقص علمه وعجز رأيه".

 


قالوا وقد مر على النبى فقير وغنى فقال عن الفقير: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا" وروى البخارى فى صحيحه عن سهل بن سعد رضى الله عنه قال مر رجل على رسول الله فقال: "ما تقولون فى هذا فقالوا جرى ان خطب أن ينكح وان شفع أن يشفع وان قال أن يسمع قال ثم سكت فمر رجل من فقراء المسلمين فقال ما تقولون فى هذا قالوا حرى ان خطب أن لا ينكح وان يشفع الأيشفع وان قال ان لا يسمع لقوله فقال رسول الله هذا خير من ملء الارض مثل هذا".

وقد بشر رسول الله الفقراء الصابرين بما لم يبشر به الأغنياء ففى الترمذى من حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله: "كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم فىالصلاة من الخصاصة وهم أصحاب الصفة حتى يقول الاعراب هؤلاء مجانين فإذا صلى رسول الله انصرف اليهم وقال لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة" قال فضالة وأنا يومئذ مع رسول الله وبشرهم بسبقهم الاغنياء الى الجنة.

 

 

 

  وقد اختلفت الروايات فى مدة هذا السبق ففى صحيح مسلم عن عبد الله ابن عمر أنه جاء ثلاثة نفر فقالوا يا أبا محمد والله ما نقدر على شئ لا نفقة ولا دابة ولا متاع فقال لهم ما شئتم ان شئتم رفعتم الينا فأعطيناكم ما يسر الله لكم وان شئتم ذكرنا أمركم للسلطان وان شئتم صبرتم فإنى سمعت رسول الله يقول: "ان فقراء المهاجرين يسبقون الاغنياء يوم القيامة بأربعين خريفا قالوا نصبر ولا نسأل شيئا".

وقال الامام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن بن سلمة عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله قال: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام" قال الترمذى حديث حسن صحيح وفى الترمذى أيضا من حديث أبى سعيد قال قال رسول الله: "فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة سنة" وهو حديث حسن وفيه وأيضا من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه عن النبى قال: "يدخل فقراء أمتى الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا" وهو حديث حسن وهو موافق لحديث عبد الله بن عمر ولحديث أنس الذى فى الترمذى: "ان المساكين يدخلون قبل الاغنياء باربعين خريفا".

 


فهؤلاء ثلاثة جابر وأنس وعبد الله بن عمر وقد اتفقوا على الاربعين وهذا أبو هريرة وأبو سعيد قد اتفقا على التقدير بخمسمائة سنة ولا تعارض بين هذه الاحاديث إذ التأخر والسبق درجات بحسب الفقر والغنى فمنهم من يسبق باربعين ومنهم من يسبق بخمسمائة ولا يتقيد السبق بهذا المقدار بل يزيد عليه وينقص.

وقد روى أبو داود فى سننه من حديث أبى هريرة عن النبى: "أن أول الامة دخولا الى الجنة أبو بكر الصديق رضى الله عنه" ومعلوم أن المدة التى بينه وبين اخوانه من فقراء المهاجرين لا تطول وانها أطول مدة بين دخوله وبين دخول آخر من يدخل الجنة

وقد روى الامام أحمد فى مسنده من حديث عبد الله بن عمر رضى  الله عنه عن النبى أنه قال: "هل تدرون أول من يدخل الجنة قالوا الله ورسوله أعلم قال فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء تقول الملائكة يا ربنا ملائكتك وخزنتك وسكان سماواتك لا تدخلهم الجنة قبلنا فيقول عبادى لا يشركون بى شيئا يتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء فعند ذلك تدخل عليهم الملائكة من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار".

 


وقال الامام أحمد حدثنا حسين بن محمد ثنا دويد عن مسلم بن بشير عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله: "التقى مؤمنان على باب الجنة مؤمن غنى ومؤمن فقير كانا فى الدنيا فأدخل الفقير الجنة وحبس الغنى ما شاء الله أن يحبس ثم أدخل الجنة فلقيه الفقير فيقول أى أخى ماذا حبسك والله لقد احتبست حتى خفت عليك فيقول أى أخى انى حبست بعدك محبسا فظيعا كريها ما وصلت اليك حتى سال منى من العرق ما لو ورده ألف بعير كلها أكلت حمصا لصدرت عنه رواء" وقال الطبرانى فى معجمه حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمى وعلى بن سعيد الرازى قالا حدثنا على بن بهرام العطار حدثنا عبد الملك ابن أبى كريمة عن الثورى عن محمد بن زيد عن أبى حازم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال سمعت رسول الله يقول: "إن فقراء المؤمنين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وذلك خمسمائة سنة فقال رجل أمنهم أنا يا رسول الله قال إن تغديت رجعت على عشاء وإذا تعشيت يبيت معك غداء قال نعم قال لست منهم فقام رجل فقال أمنهم أنا يارسول الله قال هل سمعت ما قلنا لهذا قال نعم ولست كذلك قال هل تجد ثوبا ستيرا سوى ما عليك قال نعم قال فلست منهم فقام آخر فقال أمنهم أنا يا رسول الله فقال هل سمعت ما قلت لهذين قبلك قال نعم قال هل تجد قرضا كلما شئت أن تستقرض قال نعم قال فلست منهم فقام  آخر فقال أمنهم أنا يارسول الله فقال هل سمعت ما قلت لهؤلاء قال نعم قال تقدر ان تكتسب قال نعم قال فلست منهم قال فقام خامس فقال أنا منهم يا رسول الله فقال هل سمعت ما قلت لهؤلاء قال نعم قال هل تمسى عن ربك راضيا وتصبح كذلك قال نعم قال فأنت منهم قال النبى ان سادات المؤمين فى الجنة من اذا تغدى لم يجد عشاء واذا تعشى لم يبت عنده غداء وان استقرض لم يجد قرضا وليس له فضل كسوة إلا ما يوارى به مالا يجد منه بدا ولا يقدر على أن يكتسب ما يعشيه ويمسى عن الله راضيا ويصبح راضيا أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا" قال الطبرانى هذا حديث غريب من حديث سفيان الثورى عن محمد بن زيد يقال هو العبدى تفرد به عبد الملك

 

 

قلت محمد هذا هو العبدى وثقه قوم وضعفه آخرون قال الداقطنى ليس بالقوى وقال أبو حاتم صالح الحديث وذكره ابن حبان فى الثقات وروى له الترمذى وابن ماجه وفى هذه الطبقة محمد بن زيد الشامى يروى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن وهو متروك ونخاف أن يكون هذا هو الثورى لم ينسبه وانما يقال هو العبدى والله أعلم

وقال الامام أحمد حدثنا اسماعيل بن ابراهيم حدثنا هشام الدستوائى عن يحيى ابن أبى كثير عن عامر العقيلى عن أبيه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله: "عرض على أول ثلاثة يدخلون الجنة وأول ثلاثة يدخلون النار فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة فالشهيد وعبد مملوك لم يشغله رق الدنيا عن طاعة ربه وفقير متعفف ذو عيال وأما أول ثلاثة يدخلون النار فأمير مستلط وذو ثروة من مال لا يؤدى حق الله فى ماله وفقير فخور" وروى الترمذى منه ذكر الثلاثة الذين يدخلون الجنة فقط

قالوا ويكفى فى فضل الفقير أن عامة أهل الجنة الفقراء وعامة أهل النار الاغنياء قال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن محمد بن أبى شيبة حدثنا  شريك عن ابى اسحاق عن السائب بن مالك عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله: "أطلعت فى الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت فى النار فرأيت أكثر اهلها الأغنياء والنساء".

وفى صحيح البخارى عن أبى رجاء قال جاء عمران بن حصين الى امرأته من عند رسول الله فقالت حدثنا ما سمعت من النبى فقال انه ليس من حديث فلم تدعه أو قال فأغضبته فقال سمعت رسول الله يقول: "نظرت فى الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ونظرت فى النار فرأيت أكثر أهلها النساء".

 

 

وفى الصحيحين من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله قال: "قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء" وفى صحيح مسلم عن ابن عباس: "أن النبى اطلع فى النار فرأى أكثر أهلها النساء واطلع فى الجنة فرأى أكثر أهلها الفقراء".

قالوا ويكفى فى فضل الفقر أن كل أحد يتمناه يوم القيامة من الاغنياء قال الامام احمد حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا اسماعيل يعنى ابن خالد عن نفيع عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله ما من أحد يوم القيامة غنى ولا فقير الا ود أن ما كان أوتى فى الدنيا قوتا قال البخارى يتكلمون فى نفيع وهذا أليق ما قيل فيه

قالوا وقد صرح رسول الله فى تفضيل الفقراء فى غير حديث فمنها ما تقدم من حديث سهل بن سعد وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاويه حدثنا الاعمش عن زيد بن وهب عن أبى ذر رضى الله عنه قال قال رسول الله: "يا أبا ذر ارفع بصرك فانظر أرفع رجل تراه فى المسجد قال فنظرت فإذا رجل جالس عليه حلة له قال فقلت هذا قال فقال يا أبا ذر ارفع بصرك فانظر أوضع رجل تراه في المسجد قال   فنظرت فاذا رجل ضعيف عليه أخلاق قال فقلت هذا قال فقال رسول الله والذى نفسى بيده لهذا أفضل عند الله يوم القيامة من قراب الارض من هذا".

قال حدثنا وكيع ووافقه زائد حدثنا الاعمش عن سليمان بن يسار عن خرشة ابن الحر عن أبى ذر فذكره وقال لهذا خير عند الله يوم القيامة من ملء الارض مثل هذا قال الامام أحمد وحدثنا أبو معاوية ووافقه يعلى قال حدثنا الاعمش عن زيد بن وهب عن أبى ذر فذكره

قالوا والذى يفصل بيننا فى هذه المسألة ويشفى العليل أن الفقر يوفر أجر صاحبه ومنزلته عند الله والغنى ولو شكر فإن ما ناله فى الدنيا بغناه يحسب عليه من ثوابه يوم القيامة وان تناوله بأحل وجه فقليل الفضل فى الدنيا ناقص من كثير الآخرة وفى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: "ما من غازية تغزو فى سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثى أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وان لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم".

وفى الصحيحين عن خباب بن الارت رضى الله عنه قال: "هاجرنا مع رسول الله نلتمس وجه الله فوقع أجرنا على الله فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير رضى الله عنه قتل يوم أحد وترك بردة فكنا اذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجلاه بدا رأسه فأمرنا رسول الله أن نغطى رأسه ونجعل على رجليه شيئا من الاذخر ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها" وفى الصحيحين عن قيس بن أبى حازم قال دخلنا على خباب نعوده وقد اكتوى سبع كيات فقال ان أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا وذكر الحديث وقال سعيد بن منصور حدثنا معاوية عن الاعمش عن مجاهد عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: "ما أوتى عبد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته عند الله وان كان عليه كريما".

 

 

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ ما أوتى عبد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته عند الله وان كان عليه كريما

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day