مصير الدنيا وحقيقتها
ثم أخبر تعالى عنها أنها تكاثر فى الاموال والاولاد فيحب كل واحد أن يكاثر بنى جنسه فى ذلك ويفرح بأن يرى نفسه أكثر من غيره مالا وولدا وأن يقال فيه ذلك وهذا من أعظم ما يلهى النفوس عن الله والدار الاخرة كما قال تعالى { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } والتكاثر فى كل شئ فكل من شغله وألهاه التكاثر بأمر من الامور عن الله والدار الاخرة فهو داخل فى حكم هذه الاية فمن الناس من يلهيه التكاثر بالمال ومنهم من يلهيه التكاثر بالجاه أو بالعلم فيجمعه تكاثرا وتفاخرا وهذا أسوأ حالا عند الله ممن يكاثر بالمال والجاه فإنه جعل أسباب الاخرة للدنيا وصاحب المال والجاه استعمل أسباب الدنيا لها وكاثر بأسبابها
أخبر سبحانه عن مصير الدنيا وحقيقتها وأنها بمنزلة غيث أعجب الكفار نباته والصحيح ان شاء الله أن الكفار هم الكفار بالله وذلك عرف القرآن حيث ذكروا بهذا النعت فى كل موضع ولو أراد الزراع لذكرهم باسمهم الذى يعرفون به كما ذكرهم به فى قوله يعجب الزراع وانما خص الكفار به لأنهم أشد اعجابا بالدنيا فإنها دارهم التى لها يعملون ويكدحون فهم أشد اعجابا بزينتها وما فيها من المؤمنين
ثم ذكر سبحانه عاقبة هذا النبات وهو اصفراره ويبسه وهذا آخر الدنيا ومصيرها ولو ملكها العبد من أولها الى آخرها فنهايتها ذلك فإذا كانت الاخرة انقلبت الدنيا واستحالت الى عذاب شديد أو مغفرة من الله وحسن ثوابه وجزائه كما قال على بن أبى طالب الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عفها ومطلب نجح لمن سالم فيها مساجد انبياء الله ومهبط وحيه ومصلى ملائكته ومتجر أوليائه فيها اكتسبوا الرحمة وربحوا فيها العافية فمن ذا يذمها وقد آذنت بنيها ونعت نفسها وأهلها فتمثلت ببلائها وشوقت بسرورها الى السرور تخويفا وتحذيرا وترغيبا فذمها قوم غداة الندامة وحمدها آخرون ذكرتهم فذكروا ووعظتهم فاتعظوا فيا أيها الذام للدنيا المغتر بتغريرها متى استذمت اليك بل متى غرتك أبمنازل آبائك فى الثرى أم بمضاجع أمهاتك فى البلاء كم رأيت موروثا كم عللت بكفيك عليلا كم مرضت مريضا بيديك تبتغى له الشفاء وتستوصف له الأطباء ثم لم تنفعه شفاعتك ولم تسعفه طلبتك مثلت لك الدنيا غداة مصرعه مصرعك ومضجعه مضجعك ثم التفت الى المقابر فقال يا أهل الغربة ويا أهل التربة أما الدور فسكنت وأما الاموال فقسمت وأما الأزواج فنكحت فهذا خبر ما عندنا فهاتوا خبر ما عندكم ثم التفت الينا فقال أما لو أذن لهم لأخبروكم ان خير الزاد التقوى
فالدنيا فى الحقيقة لا تذم وانما يتوجه الذم الى فعل العبد فيها وهى قنطرة أو معبر إلى الجنة أو الى النار ولكن لما غلبت عليها الشهوات والحظوظ والغفلة والإعراض عن الله والدار الآخرة فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها وهو الغالب على اسمها صار لها اسم الذم عند الاطلاق والا فهى مبنى الاخرة ومزرعتها ومنها زاد الجنة وفيها اكتسبت النفوس الايمان ومعرفة الله ومحبته وذكره ابتغاء مرضاته وخير عيش ناله أهل الجنة فى الجنة انما كان بما زرعوه فيها وكفى بها مدحا وفضلا لأولياء الله فيها من قرة العيون وسرور القلوب وبهجة النفوس ولذة الارواح والنعيم الذى لا يشبهه نعيم بذكره ومعرفته ومحبته وعبادته والتوكل عليه والانابة اليه والانس به والفرح بقربه والتذلل له ولذة مناجاته والاقبال عليه والاشتغال به عمن سواه وفيها كلامه ووحيه وهداه وروحه الذى ألقاه من أمره فأخبر به من شاء من عباده ولهذا فضل ابن عقيل وغيره هذا على نعيم الجنة وقالوا هذا حق الله عليهم وذاك حظهم ونعيمهم وحقه أفضل من حقهم قالوا والايمان والطاعة أفضل من جزائه والتحقيق أنه لا يصح التفضيل بين أمرين فى دارين مختلفين ولو أمكن اجتماعهما فى دار واحدة لأمكن طلب التفضيل والايمان والطاعة فى هذه الدار أفضل ما فيها ودخول الجنة والنظر إلى وجه الله جل جلاله وسماع كلامه والفوز برضاه أفضل ما فى الاخرة فهذا أفضل ما فى هذه الدار وهذا أفضل ما فى الدار الاخرى ولا يصح أن يقال فأى الامرين أفضل فهذا أفضل الاسباب وهذا أفضل الغايات وبالله التوفيق