مما يؤثره اليقين: الصبر
مما يؤثره اليقين: الصبر: ولا يمكن للعبد أن يصبر إن لم يكن له ما يطمئن له، ويتنعم به، ويغتذي به وهو اليقين [الاستقامة 2/261]. والعبد إذا كان فارغ القلب؛ لم يصبر، وإنما إذا كان له شئ يتنعم به، ويتلذذ به، ويركن إليه؛ فإنه يركن، ويصبر، ويسكن، فلا يصدر منه شئ يخالف مقتضى الصبر.
وعلى حسب يقين العبد بالمشروع؛ يكون صبره على المقدور، كما قال الله عز وجل:
} فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ[60] {
[سورةالروم]
فأمره أن يصبر، وأن لا يتشبه بالذين لا يقين عندهم لعدم الصبر، فإنهم كما قال ابن القيم رحمه الله:'لعدم يقينهم عُدِمَ صبرهم، وخفوا واستخفوا قومهم، ولو حصل لهم اليقين والحق؛ لصبروا، وما خفوا ولا استخفوا، فمن قل يقينه؛ قل صبره ومن قل صبره؛ خف واستخف، فالموقن الصابر رزين لأنه ذو لب، وعقل، ومن لا يقين له، ولا صبر عنده؛ خفيف طائش، تلعب به الأهواء والشهوات كما تلعب الرياح بالشيء الخفيف'[ التبيان في أقسام القرآن ص 55]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
[إِنِّي آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَتَهَافَتُونَ تَهَافُتَ الْفَرَاشِ]
رواه البخاري ومسلم
–بنحوه- . شبههم بالفراش لخفتها، وسرعة حركتها وانتشارها، وهي صغيرة النفس، جاهلة بمصالحها، تتهافت في النار؛ لأنها تنجذب إلى النور، وإلى الضياء، ويكون سبباً لإحراقها، يقول ابن القيم رحمه الله:'ولهذا يقال لمن أطاع من يغويه: إنه استخفه. وقال الله عن فرعون بأنه:
} فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ...[54] {
[سورة الزخرف].
والخفيف لا يثبت بل يطيش، وصاحب اليقين ثابت'[ الفوائد 211 – 212] .
ويقول في موضع آخر:'لذة الآخرة أعظم وأدوم، ولذة الدنيا أصغر وأقصر، وكذلك ألم الآخرة وألم الدنيا، والمعول في ذلك على الإيمان واليقين، فإذا قوى اليقين، وباشر القلب؛ آثر الأعلى على الأدنى في جانب اللذة، واحتمل الألم الأسهل على الأصعب'[ الفوائد ص201] . ولهذا قال بعض الزهاد العبّاد من المتقدمين:'تَرِدُ عليّ الأثقال –يعنى من المصائب والآلام- التي لو وضعت على الجبال تفسخت، فأضع جنبي على الأرض وأقول –مُثَبِّتاً لنفسه-
}فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[5]إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[6]{
[سورة الشرح]
. ثم أرفع رأسي وقد انفرجت عني'[ نزهة الفضلاء [1575]] .
والعبد يجب عليه أن يروّض نفسه على الحد الأدنى وهو الصبر؛ لأنه ليس دون الصبر إلا الجزع والسخط، فيذهب الأجر، ولا يُسترد المفقود، ما ذهب لا يرجع، ما فات فإنه لا يمكن أن يعود، وبالتالي ليس على العبد إلا أن يصبر؛ ليؤجر على هذه المصيبة. وأما إذا تسخط، فإنه يأثم، ويفوته الأجر، والنهاية أنه يسلو سلو البهائم من غير احتساب ولا صبر، ولهذا قال بعض خلفاء بني العباس –وهي كلمة حق- يقول:'أعيت الحيلة في الأمر إذا أقبل أن يُدبر' يعني: ما قدره الله كائن لا محالة، ولا سبيل إلى دفعه، فعليك أن تستقبله بالرضى والتسليم.. يقول:'وإذا أدبر أن يُقبل'.
فإذا مات لك حبيب، فلا يمكن أن يرجع من جديد إلى هذه الحياة الدنيا، فليس عليك إلا الصبر. وكان عطاء الخراساني رحمه الله لا يقوم من مجلسه حتى يقول:'اللهم هب لنا يقيناً بك حتى تهون علينا مُصيبات الدنيا، وحتى نعلم أنه لا يُصيبنا إلا ما كُتب علينا، ولا يأتينا من هذا الرزق إلا ما قسمت لنا به'.
إذا وُجد عند العبد اليقين أن هذه الأرزاق قسمها الله بعلم وحكمة، وأن الإنسان كُتب له رزقه وهو في بطن أمه، فالرزق لا يجلبه حرص حريص؛ فإنه لا يتهافت على الدنيا، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [...اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ...]رواه ابن ماجة. فما قُسم لك من هذا الرزق؛ سيأتي إليك، ولو اجتمع من بأقطارها على أن يمنعوا منك شيئاً من هذا الرزق الذي كتبه الله عز وجل لك، لا يمكن أن يمنعوه، فلماذا التهافت على الدنيا؟ ولماذا الحرص الذي يُخرج الإنسان عن الاقتصاد في الطلب، وعن التزام أخذ الحلال دون غيره مما حرم الله تبارك وتعالى؟!