مما يورثه اليقين: الرضا بما قدر الله عز وجل وأعطى وقسم
* السادس: مما يورثه اليقين- وهو مرتبه فوق الصبر-: الرضا بما قدر الله عز وجل وأعطى وقسم: فاليقين هو أفضل مواهب الله عز وجل على العبد، ولا يمكن أن تثبت قدم الرضا إلا على قاعدة اليقين ودرجته، فمن لا يقين عنده لا يمكن أن يصبر، فضلاً أن يرتقى إلى درجة الرضا بما قدر الله عز وجل عليه من الآلام والمصائب والمحن والبلايا، وما قدر الله عليه من الفقر والمرض، وما أشبه ذلك، الله يقول:
} مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ...[11]{
[سورة التغابن].
يقول ابن مسعود:'هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله؛ فيرضى ويُسلّم'. ولهذا لم يحصل له هداية القلب والرضا والتسليم إلا باليقين .[ مفتاح دار السعادة 1/154] .وهذا الرضا يكون بقضاء الله عز وجل.
وهذه محاورة وقعت بين الحسن بن على رضى الله عنه، وبين من نقل كلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: أبو ذر رضى الله عنه كان يقول:'الفقر أحب إلىّ من الغنى، والسقم –يعنى المرض- أحب إلىّ من الصحة' فلما بلغ ذلك الحسن بن على رضى الله عنه قال:'رحم الله أبا ذر، أمّا أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له؛ لم يتمنَّ شيئاً'. وهو حد الوقوف على الرضا بما تصرف به القضاء، فلا يتمنى أن هذا الأمر من الأمور التي يحُبها من عاجل الدنيا ونعيمها وقع له، ولا يتمنى أيضاً أن هذه المصيبة والألم لم يقع له، وإنما هو راضٍ بما قسم الله عز وجل له، ولهذا يقول: سفيان الثوري رحمه الله - وقد قال له الربيع بن خُثيم:' لو تداويت' أصابه مرض فقال له: لو تداويت، مع أن العلاج والتداوي مباح- فقال:' ذكرت عاداً، وثموداً، وأصحاب الرس، وقروناً بين ذلك كثيراً، كان فيهم أوجاع، وكانت لهم أطباء، فما بقى لا المداوي ولا المداوي' . كلهم قد أفناهم الله عز وجل، فيرضى العبد بما قضى الله عز وجل عليه من ذلك كله.
وهذا سعيد بن جُبير رحمه الله، إمام من أئمة التابعين لدغته عقرب، فأصرت أمه عليه أن يسترقي، ومعلومٌ أن من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ولا عقاب، الذين لا يسترقون: لا يطلبون الرقية، فلما أصرت أمه، أراد أن يُطيّب خاطرها، فأعطى الراقي يده الأخرى التي لم تُصب بلدغة هذا العقرب، وترك اليد الأخرى، فعل ذلك؛ إرضاءً لأمه، وجبراً لخاطرها، وتطييباً لنفسها، ولم يفعل الأمر الذي كان يتنافى عنده مع كمال التوكل .
وهذا يونس بن عُبيد كتب إلى ميمون بن مهران، عالم، عابد، بعد طاعون كان ببلادهم يسأله عن أهله، فكتب إليه ميمون بن مهران يقول:' بلغني كتابك، وإنه مات من أهلي، وخاصتي سبعة عشر إنساناً بهذا الطاعون، وأني أكره البلاء إذا أقبل، فإذا أدبر لم يُسرني أنه لم يكن'. يقول: أنا راضٍ بما قسم الله عز وجل، وهكذا يرضى العبد الموقن بما قسم الله عز وجل له من الرزق، ولهذا يقول أبو حازم رحمه الله:' وجدت الدنيا شيئين: فشيء هو لى، وشيء لغيري، فلو طلبته بحيلة السموات والأرض؛ لم أصل إليه'. يعنى: الذي كُتب لغيري من الرزق لو طلبته بحيلة السموات والأرض لم أصل إليه، فيُمنع رزق غيري مني كما يُمنع رزقي من غيري . يقول: ما كتب لي لابد أن يأتي، ولو اجتمع من بأقطارها ليمنعوه. وما كان مكتوباً لغيري لا يمكن أن يصل إليّ.
فلا حاجة للعبد أن يتسخط، ويتذمر على بيعةٍ باعها، فندم عليها، فيأكله الندم طوال حياته، ولربما حدّث أبناءه وأحفاده بهذه الأرض التي باعها قبل خمسين سنة ببيعةٍ زهيدة، هي لم تُكتب لك، فلا حاجة للتحسر، هي مكتوبة لفلان فلا يمكن أن تصل إليك، هذا فضلاً عن الحرام، فالإنسان قد يخرج من العمل في ساعات العمل، وقد يغيب ويسجل له مدير المدرسة، أو المديرة تسجل لهذه المعلمة أنها حضرت هذه الأيام وتُعطى من الراتب، هذا المال الذي وصل إليها سيصل، فإن صبرت؛ سيصلها عن طريق الحلال، فإن لم تصبر؛ فإنها تأخذه عن طريق الحرام، وما لم يُكتب، فإنه لا يصل بحالٍ من الأحوال، فعلى العبد أن يتقى ربه ويُجمل في الطلب.