من صفات الربانيين الإخلاص
الصفة الثالثة لهؤلاء الربانيين: الإخلاص والنية، يقول صلى الله عليه وسلم في حديث عمر المتفق عليه: {إنما الأعمال بالنيات} ويقول أيضاً في الحديث الآخر المتفق عليه عن ابن عباس وغيره: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية}؛ فيعبد الله تعالى بالنية الصالحة: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [هود:15] -بنيته وقصده- مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود:15-16]. مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً [الإسراء:18] يقول الزهري وهو من خيار التابعين: [[ما عُبِدَ الله بشيء أفضل من العلم]]. إذاً وأنت تتناول العلم حفظاً، أو دراسةً، أو تأليفاً، أو تعليماً فأنت تعبد الله بهذا، ويقول سفيان الثوري: [[لا أعلم بعد النبوة أفضل من العلم؛ لأن العالم هو وريث النبي، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم]].
جاء أبو هريرة رضي الله عنه إلى أهل السوق وهم يتبايعون ويتشاورون، فقال: [[أنتم ها هنا وميراث النبي صلى الله عليه وسلم يقسم في المسجد، فتركوا بضائعهم، وذهبوا يركضون إلى المسجد فدخلوا فما وجدوا إلا حلقة هنا تعلم التفسير، وحلقة تعلم الحديث، وحلقة هنا وحلقة هناك، فرجعوا، وقالوا: يا أبا هريرة -غفر الله لك- ما رأينا شيئاً، قال: ذهبتم؟ قالوا: نعم، قال: فماذا رأيتم؟ قالوا: رأينا قوماً يعلمون القرآن، وقوماً يعلمون التفسير، وقوماً يعلمون الحديث، قال: وهل ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا؟]]. ويقول ابن وهب وهو من تلاميذ الإمام مالكقال: كنت عند مالك وقد نشر كتبه يقرأ، ويعلم، ويبين، قال: فأذن المؤذن فذهبت أجمع هذه الكتب من أجل أن يذهب بها، فقال الإمام مالك على رسلك -ترفق- ليس الذي تقوم إليه -من التنفل قبل الفريضة- بأفضل من الذي تقوم عنه من العلم إذا صحت النية. إذاً فالعلم عبادة، ولابد لطالب العلم وهو يتناول العلم من أن يشعر أنه يتعبد الله تعالى ويتقرب إليه بالتعرف على حكمه في المسائل، والتعرف إليه جل وعلا بأسمائه وصفاته وأفعاله، والتعرف إلى أنبيائه بمعرفتهم ومعرفة حقوقهم، وما أشبه ذلك من ألوان العلم وصنوفه. وهذا الوصف، وصف الإخلاص والنية هو من أخص معاني الربانية: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] أي: إرادة وجه الرب تبارك وتعالى فيما يأخذ الإنسان ويدع، وبها يبارك الله تعالى في العلم، وبها يُثمر العلم وينفع، فأنت تجد أن الذين نفع الله تعالى بعلمهم ليسوا بالضرورة هم أذكى الناس، لا، ولا أكبر الناس عقولاً، ولا أكثر الناس علماً أيضاً، ولكن بارك الله في علمهم، ونفع الله به؛ لأنه كان فيه الإخلاص، فكان يخلط مع علمه شيئاً من الإخلاص، وهناك علم غزير ولكن بلا روح، ولا إيمان، ولا إخلاص، ولذلك لم يبارك الله تعالى فيه فقل المنتفعون به.