أبجدية حاسة الشم
لقد استطاع العلماء خلال التسعينات بواسطة الأبحاث العلمية التوصل إلى ألف نوع من المستقبلات الشمية الموجودة في أنف الإنسان36، وهذا الكشف العلمي حير رجال العلم لأنّ هذا العدد من المستقبلات الشمية يعتبر أضعاف تلك الموجودة في حاسة الذوق والبصر والسمع، إضافة إلى إثارة سؤال جديد ينتظر بدوره الحصول على إجابة، وللوهلة الأولى يطرح السؤال نفسه: كيف تستطيع حاسة الشم أن تتعرف على أكثر من عشرة آلاف رائحة مختلفة باستخدام 1000مستقبلة شمية فقط ؟
قام العلماء الأمريكان واليابانيون بالانكباب على السؤال للبحث عن جواب علمي له، واستطاعوا سنة 1999 أن يتوصلوا إلى بعض الحقائق التي تقودهم إلى الجواب العلمي المقنع، ومنها أن المستقبلة الشمية تستطيع أن ترتبط بمختلف جزيئات الروائح، وأن جزيئة الرائحة المعينة تستطيع أن تحدث تأثيرا على مختلف أنواع المستقبلات الشمية37، ومع استمرار الأبحاث العلمية استطاع العلماء أن يتوصلوا إلى الآليات الحياتية التي تتحكم في حدوث الفعاليات الحيوية داخل جهاز حاسة الشم.
وحسب تعبير إحدى الباحثات في هذا الموضوع وهي "لينداباك" فإنّ هذه الآليات الحياتية بمثابة أبجدية خاصة لحاسة الشم 38. فمن المعلوم أن الكلمات والجمل التي نستخدمها في حياتنا اليومية تتألف من الحروف الأبجدية، أي أن الكلام الذي نستخدمه وسيلة للتخاطب اليومي يتألف من الحروف الأبجدية، والحرف الأبجدي بمفرده لا يعني شيئا، ولكن هذه الحروف إذا رتبت بطريقة معينة أدت إلى تكون كلمة مفيدة وذات معنى، وكذلك حاسة الشم فإن فيها أبجدية ولكن حروفها هي المستقبلات الشمية، أي أن الألف مستقبلة شمية تشكل الحروف الأبجدية لحاسة الشم، وبتعبير آخر لا توجد جزيئة رائحة معينة تؤثر على مستقبلة شمّية بعينها وإنما توجد مجاميع لجزيئات مختلف الروائح تؤثر على مجموعات معينة من المستقبلات والتي بدورها تقوم بإحداث تأثيراتها في مناطق الاتصال المعتمة المرتبطة بها والموجودة في البصيلة الشمية.
إن هذه المجموعة المتزامنة من التأثيرات تعتبر الصفة المميزة لرائحة معينة أو الرمز الأبجدي الخاص بها. وعلى سبيل المثال تقوم الرائحة (أ) بتنشيط مناطق الاتصال المعتمة والمرقمة بـ23، 246، 456، وتقوم الرائحة (ب) بتنشيط مناطق الاتصال المعتمة والمرقمة بـ
1245،812،684،573،382 وعن طريق الاشارتين العصبيتين المتولدتين من ذلك التنشيط يقوم المركز الشمي في المخ بترجمتها إلى رائحتين مختلفتين. وهذه العملية الحسابية البسيطة التي يجريها مخ الانسان تعكس احتواء أجسامنا على الآلية الخارقة للتمييز بين الملايين من الروائح المختلفة39.
وإذا قلنا "إن المطبخ تفوح منه رائحة الفانيلين أو الفانيلا"، فهذه تعتبر جملة مفيدة بالنسبة إلينا لأن هناك كلمات ذات حروف مرتبة بشكل نستطيع أن نفهمها ونستخلص منها معنى ما، وكذلك الأمر بالنسبة إلى لتشخيصنا لنوع الرائحةبـ" الفانيلين"، فإن هذا يرجع إلى تأثير مناطق اتصال معتمة معينة في البصيلة الشمية والتي يترجمها المخ إلى ما يعرف في قاموسنا اللغوي "الفانيلين".
ويقوم المركز الشمي في المخ بتقييم الإشارات العصبية القادمة من المستقبلات الشمية على شكل مجاميع، ويترجم المركز الشمي الإشارات القادمة من ألف مستقبلة شمية مختلفة على شكل رائحة حسب التلاؤم بين هذه الاشارات، أي أن المستقبلة الشمية الواحدة تعتبر تمثل لبنة واحدة ضمن البناء العام للرائحة. ويتولد في مخ الإنسان الإحساس الذي ندعوه بـ"الرائحة"عند اكتمال جميع لبنات ذلك البناء العام.
ويشبه البروفيسور جي. ليفنجويل أبجدية حاسة الشم بتجمع الحروف لتكوين الكلمات أو بتجمع الرموز الموسيقية لتكوين النوتة الموسيقية أو حتى برموز الحاسبات الالكترونية التي تستخدم الرمزين ( 1،0)40. ومثل أي كشف علمي فإن اكتشاف أبجدية حاسة الشم يعتبر مسمارا جديدا في نعش نظرية التطور، فمن المستحيل أن تتجمع الحروف من تلقاء نفسها لتشكل عملا أدبيا رائعا لوليم شكسبير، أو أن تتجمع الرموز الموسيقية لتشكل مصادفة سيمفونية رائعة للموسيقار موزار، غير أنّ الإحساس بالروائح عملية أعقد بكثير، وبالتأكيد يستحيل أن تحدث تلك العملية المعقدة باستخدام أبجدية حاسة الشم بمحض المصادفة.
وأصحاب نظرية التطور يغرقون في مستنقع ادعاءاتهم لأنهم لا يكتفون بتفسير حدوث الشم بالصدفة وإنما يدعون أن المستقبلات الشمية قد وجدت بالصدفة أيضا، وهذا لايزيد ادعاءاتهم إلا فشلا، فالمستقبلات الشمية تتم السيطرة على فعالياتها من خلال ألف جين وراثي مختلف41. وهذه المستقبلات تتكون نتيجة وجود مخطط مرسوم ومسبق عبر ما يدعى بالرموز الوراثية التي تحملها الجينات، وهذه الجينات موجودة في جميع كروموسومات الإنسان عدا
الكروموسوم العشرين وكروموسومY42، كما هو موضح في الشكل (16). ومن المستحيل أن تتكون هذه الرموز الوراثية بالصدفة ولو لمستقبلة شمية واحدة. ولو اجتمع كل البشر الذين عاشوا قبل القرن العشرين مثلا ليكتبوا صفة وراثية واحدة لما استطاعوا تحقيق هذا الأمر أبدا، فضلا عن عدم قدرتهم على التعامل مع شيء اسمه الكمبيوتر بالرغم من كونهم كائنات عاقلة، فما بالك بالذرات التي هي كائنات غير عاقلة، أيعقل أن تقدم على كتابة الصفات الوراثية للمستقبلات الشمية التي نستطيع نحن بواسطتها أن نحسّ بروائح عديدة جدا؟
إنه من المستحيل أن تظهر المستقبلات الشمية وجهاز حاسة الشّم إلاّ بقدرة من هو قادر على خلقها: ( قَالَ رَبُّ السّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا بَينَهُمَا إِن كُنتُم مُوقِنِينَ) سورة الشعراء-الآية 24
الإعجاز في ارتباط الأعصاب الشمية بعضها ببعض
تتميز الأعصاب الشمية عن باقي الخلايا العصبية بخاصية مهمة جدا، فهي تعيش لفترة تبلغ خمسة وأربعين يوما كمتوسط، على خلاف الخلايا العصبية الشمية المخية التي تبلغ مائة بليون خلية تقريبا والتي لا تتجدد أبدا، وعند نهاية هذه الفترة تموت الخلية العصبية الشمية لتحل محلها خلية جديدة43.
أما المكان الذي تتولد فيه الخلايا الجديدة فهو الخلايا القاعدية الموجودة في المنطقة الشمية، والتي هي بمثابة مصانع لإنتاج خلايا شمية جديدة وبشكل مستمر.
وعند الإصابة بضربات شديدة في منطقة الجمجمة، فمن المحتمل أن تصاب الأعصاب الشمية وخصوصا التي تمر عبر عظم الأنف المنخلي. وإذا كانت الإصابة ليست شديدة في المنطقة الشمية سرعان ما تتدخل الخلايا القاعدية لإنتاج خلايا شمية جديدة لتتولى أداء وظيفة الشم، وبهذا الشكل تتم الحيلولة دون فقدان حاسة الشم. ولهذا السبب يلاحظ أن المرء المصاب سرعان ما يعاود استخدام حاسة الشم بعد الإصابات المختلفة44.
وهنا تظهر أمامنا أسئلة محيرة ومثيرة مثلا: كيف تعرف الخلايا الجديدة المتولدة الأماكن الخاصة بها لأداء وظائفها الجديدة دون أيّ خطإ أو خلل؟ كيف تستطيع بلوغ أهدافها بالتحديد ؟ كيف تستطيع الخلايا الشمية الجديدة أداء وظائفها المحددة بالتأثر بجزيئات الروائح المختلفة كما كان عليه الحال لدى نظيراتها السابقات ودون أي خطإ؟ كيف يتم تحقيق الاتصال بين المستقبلات الشمية الجديدة والبصيلة الشمية دون أيّ خطإ؟
إنّ مثل هذه الأسئلة كانت منطلقا لإجراء الأبحاث العلمية المكثفة45، واستطاع العلم أن يتوصل إلى حقيقة وجود آليات حياتية تتحكم في عمل أجزاء حاسة الشم، ولكن الذي ما يزال مجهولا هو طبيعة هذه الآليات. والنقطة التي تلفت الانتباه هنا هي عملية تغيّر الملايين من الخلايا الشمية كل خمسة وأربعين يوما، وبالرغم من هذا التغيّر الدّوري فإن رائحة البرتقال تبقى هي نفسها بالنسبة إلينا ورائحة الزهور تبقى كما هي، وهكذا بالنسبة إلى باقي الروائح.
إنّ هذا يعكس عدم حدوث أي خطإ خلال تسلم الخلايا الجديدة لوظائفها الجديدة، ولو أن مثل هذه الأخطاء تحدث للإنسان لما استطاع أن يتخلص منها ولتحولت حياته إلى جحيم لا يطاق، ولكن الذي يحدث أن الخلايا الجديدة تحل مكان القديمة دون أي خطإ أو تقصير، وتبدأ في ممارسة مهامها مباشرة. والأمر الثاني اللافت للانتباه كذلك يتمثل في كيفية ارتباط الخلايا الجديدة بالبصيلة الشمية دون أي خطإ، فلا الأنف ولا المخ يحتويان على إشارات دالة تقودان استطالات ومحاور الخلايا الجديدة نحو البصيلة الشّمية، ولا يمكن أن نفترض أن الخلايا تمتلك عقلا وإدراكا كي تسأل عن طريقها الذي تنشده، ومثل هذا التجدد الذي يطرأ على ارتباطات الأعصاب الشمية طيلة حياة الإنسان ودون أي خطإ لايمكن تفسيره وفق قاعدة الاحتمالات، وإذا ادعى أحدهم بأن الاتصالات بين الملايين من الخلايا الشّمية قد تشكلت بالصدفة فإنّ ادعاءه هذا يشبه تكون أسلاك الشبكة الهاتفية لمدينة كبيرة جدا مثل استانبول بتأثير الرياح والرعد والمصادفات، ولاشكّ أن مثل هذه الشبكة الاتصالاتية العجيبة تمثل شاهدا آخر على عظمة الخالق عز وجل وقدرته، الذي يقول للشيء كن فيكون، فكل جزء من أجزاء حاسة الشم، بل كل خلية أو جزيئة أو ذرة خلقها الله عزّ وجل وحدد لها وظائفها ومهامها في هذا الوجود، وهي تؤدي هذه الوظائف منذ خلقت وحسب الدستور الإلهي الذي سُنّ لها، أي أن هذه الأجزاء غيرها في جسم الكائن الحي تتحرك وفق الإلهام الإلهي لحظة بلحظة، وهذه الحقيقة وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى:
(اللهُ الذِي خَلَقَ سَبعَ سَمَواتٍ وَمِنَ الأَرضِ مِثلَهُنّ يَتَنَزَّلُ الأَمرَ بَينَهُنّ لِتَعلَمُوا أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير وَأَنَّ الله قَد أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلمًا) الطلاق - الآية 12.