الأوهام الزائفة لدعاة التطور
إنّ نظرية تطور الإنسان التي دعا إليها الداروينيون لم تكن إلا مجموعة من التخمينات أو التأملات النظرية التي صيغت على شكل سيناريهات خيالية، وهذه السيناريوهات اعتمدت في مجملها على ما يعرف بـ"إعادة البناء". وهذا المصطلح يطلق على إعادة تصوير الجماجم الخاصة بأنواع القرود المنقرضة أو تشكيلها أو نحتها. ودعاة التطور يقومون دائما برسم ملامح تخيلية لتلك الجماجم. وهدفهم إقناع الناس بوجود نوع من الإنسان القرد عاش في فترة من فترات التاريخ. وهؤلاء باستطاعتهم أن يكسبوا تلك الملامح ما يجعلها قريبة من صورة الإنسان مثلما باستطاعتهم ترك الملامح المميزة لوجه القرد على حالها، أما تشبيههم الملامح لجعلها قريبة من شكل الإنسان فيكمن في الأنسجة اللّينة التي يستعملونها في هذه العملية والتي تتشكل بالصورة التي يراد أن تكون عليها لأن عظام الوجه والجمجمة وكذلك الفم والأنف والعيون لا تحمل أنسجتها الرخوة أية صفات مميزة لذلك فوجه القرد يمكن تحويله بهذه الطريقة إلى ما يشبه وجه الإنسان بكل سهولة.
وتمتلئ الكتب والمؤلفات الداروينية بهذه الصور التي تعكس وجه كائن حي ملامحه شبيهة تماما بملامح الإنسان وشبيهة أيضا بملامح القرد101.
وهذه الكتب تصور وجه ذلك النوع المفترض وهو أفطس الأنف، ويقول أصحاب تلك النظرية إنّ الإنسان أخذ شكله الحالي بعد المرور بفترة تطوّرية بينية، وتطور شكله من القرد إلى الإنسان بمرور الزمن،وعن طريق هذه النظرية يدعي دعاة التطور أن الأنف فقد جزءا من فاعليته عندما صغر حجمه بمرور الزمن منكرين بذلك جميع فعاليات الأنف المدهشة والمعقدة.
إنّ مثل هذا التناقض الفكري الذي يقع فيه دعاة التطور إنما يعكس عجزهم وإفلاسهم الفكري ليس إلا، فادعاؤهم هذا فيما يتعلق بالأنف يتعارض مع مبدئهم القائل بالتطور من البدائي إلى المعقد لأنّ الأمر حسب ادعائهم قد انقلب رأسا على عقب أي أنّ التطور أصبح من المعقد إلى البدائي.
وبعبارة أخرى فإنّ دعاة التطور يتشبثون بنظرية معاكسة لنظريتهم الأولى، وأصبحوا يدعون بأن الحياة تراجعت من المعقد إلى البدائي، وبذلك أصبحت المصادفات المزعومة تهتم بتطوير الحواس الأخرى دون الشم، وبالتالي اتجهت نحو الاستغناء عن بعض خصائص الأنف.
إنّ تصديق الحكاية الملفقة الأولى، أي التطور من البدائي إلى المعقد يعني تصديق القصة الملفقة الثانية وهي التراجع من المعقد إلى البدائي. وإلى جانب كل هذه النظريات العقيمة فإن تضاؤل درجة التعقيد والتخصص الوظيفي للأنف بمرور الزمن يعتبر رأيا ساذجا لا دليل علمي له البتة. وقد أثبتت الأبحاث خلال السنوات الأخيرة مدى سذاجة هذا الرأي، فالأبحاث الجارية في القرن الحادي والعشرين بينت مدى التعقيد المذهل الذي يوجد عليه الأنف وحاسة الشّم ككل، وهذه الميزات نفسها هي التي خيبت آمال دعاة التطور وأسقطت نظرياتهم العقيمة.
بعض الإيضاحات الخاصة التي أدلى بها ضليع بهذا الشأن
إن مزاعم دعاة التطور في إمكانية نشوء فعاليات حاسة الشم عن طريق المصادفات البحتة وحتى تسميتهم لهذه الحاسة بالحاسة البدائية كانت في غير محلها على الإطلاق لأن هذه الحاسة تتميز بتعقيدات مذهلة ومتشعبة إلى درجة كبيرة لم يكتشف العلماء إلى حد الآن سوى جزء بسيط من جوانبها الخفية، وقد أجريت أبحاث متعددة في هذا المجال توصل من خلالها العلماء إلى هذه الحقيقة. ومن هؤلاء نذكر البروفسور سيتوارات فايريشتاين الذي يعرف عنه تعمقه في ما يتعلق بحاسة الشم، وهو من المشهورين في هذا المجال. وقد كتب فايريشتاين مقالا في موسوعة "دنيا العلوم"، عدد ديسمبر لعام 2000 بعنوان الأعصاب الشمية المستقبلة، وتضمن المقال آخر ما توصل إليه العلم من سبر لأغوار حاسة الشم، ومما لوحظ في المقال أنه نوه إلى وجود المزيد من الخفايا المتعلقة بحاسة الشم والتي لم يكتشفها العلم بعد.
وقد أدلى هذا البروفسور الذي يعمل في جامعة كولومبيا الأمريكية باعترافات علمية منها: كيف يمكن تمييز الروائح المختلفة؟ إنّ هذا السؤال يعتبر من الأسئلة المحيرة في مجال حاسة الشم، وإن بضعة مئات من المحاور العصبية تخترق العظم المنخلي وصولا إلى البصيلة الشمية حيث تجتمع فيما بينها لتشكل ما يشبه حزمة عصبية، وعندما تدخل هذه المحاور العصبية داخل البصيلة الشمية تجد طريقها نحو أهداف موجودة ضمن التراكيب المعروفةبـ"الكلوميرولات" وفق آليات لم تكتشف أسرارها بعد.
و لم يكتشف العلم بعد كيفية ارتباط الخلية العصبية الشمية بالمستقبلة الملائمة لها من بين ألف مستقبلة، وكل محور عصبي شمي يستطيع أن يرتبط بواحد أو اثنين من 1800 كلوميرول موجودة في البصيلة الشمية وبطريقة لم تعرف إلى حدّ الآن.
وتحتوي البصيلة الشمية على طبقات عديدة ومتخصصة في أداء وظائف مختلفة، وهذه الوظائف تعرف خطوطها العامة، أما تفاصيلها الحقيقية فهي في حاجة إلى من يكشفها. ويعتقد أن الشبكة المتألفة من المعابر العصبية المتقابلة والمحيطة بالبصيلة الشمية تقوم مقام موانع مهدئة، ولكن هذا الاعتقاد يحتاج إلى دليل علمي لترسيخه.
لا يزال العلم الحديث في خطواته الأولى فيما يتعلق بوظيفة الشم الحيوية في مراحلها المخية أي التي تجري داخل المركز الشمي في المخ، ولا يعرف بالضبط ما يجري على المستوى الجزئي من أحداث مؤدية إلى تحول الخلية القاعدية إلى خلية منقسمة ذات سلوكيات و إتجاهات مستجدة.
و في هذا المجال بالذات يحتاج العلم إلى المزيد من الأبحاث.
من الممكن في أغلب الحالات وإن لم يكن دائما استرجاع حاسة الشم المفقودة، وهذا التحسس المتعلق بحاسة الشم بالرغم من عدم التعرف على جوانبه بصورة دقيقة وكاملة فهو ربما يكون مرتبطا بالعدد المثالي للخلايا القاعدية وعلى درجة الضرر الذي أصيبت به الخلايا العصبية ونوع هذا الضرر، وقد تم اكتشاف كون الجين الوراثي الشمي لا يحتل إلا موقعا واحدا من أصل أربعة مواقع ضمن كروموسوم المستقبلة الشمية، أمّا طريقة اختيار هذا الموقع فلا تزال في عالم المجهول، ويعتقد أيضا أن المستقبلات الشمية تستطيع تمييز الجزيئات عن طريق وجود علاقة تشابه بينها وبين التركيب البنائي والكيمياوي لتلك الجزيئات، ولكن لم يتم التثبت من هذه العلاقة بصورة نهائية102 . ص.119 ( وَمَا ذَرَأَ لَكُم فِي الأَرضِ مُختَلِفًا أَلوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيةً لِقَومٍ يَذَّكَّرُونَ) سورة النحل-الآية 13من خلال كل ما سبق نستطيع الاستنتاج بأنه بالرغم من التقدم المذهل الذي شهده العلم فما زال هناك الكثير من الأسرار والخفايا المتعلقة بحاسة الشم في حاجة إلى من يكتشفها، والذي تم اكتشافه إلى حد الآن يتراوح بين النظرية واليقين، وهذا هو ما توصل إليه العلم بالرغم من استخدام جميع الإمكانات المتاحة. ولكن الحقيقة الساطعة تتمثل في البناء المدهش للجهاز الشمي. ويلفت البروفسور سيتوارات فايريشتان النظر إلى هذه الحقيقة في نهاية مقاله كما يلي: "تمتاز حاسة الشم لدى الأحياء الفقرية بقدرتهاعلى تمييز الكثير من المواد الكيمياوية ذات الروائح المختلفة، وهذه الميزة تجعل حاسة الشم من أكثر الأنظمة نجاحا في تمييز الروائح 103.
|
إذن فنحن أمامنا حقيقة واضحة وهي أنّ حاسة الشم تعمل وفق نظام معقد للغاية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينشأ من خلال الطفرات الوراثية أو الحظ أو الانتقاء الطبيعي وغيرها من العبارات، بل على العكس من ذلك فإنّ حاسة الشم بتركيبها المذهل وفعالياتها المعقدة تشير إلى عظمة الخالق عز وجل و قدرته اللامتناهية في إبداع الأشياء.
وقد بين البروفسور مايكل باها من جامعة لاي أن آخر ما توصل إليه العلم في عصرنا الحالي يكشف التعقيد الكبير الذي يميز أي كائن حي، وعلى هذا تكون كافة أجهزة الكائن الحي على درجة من التعقيد وتتألف من أجزاء متكاملة لا يمكن الإستغناء عن أية واحد منها أبدا، ولا يختلف في ذلك الكائن الحي الكبير والصغير. وبعبارة أخرى يستطيع العضو الجسمي للكائن الحي أن يؤدي وظيفته بصورة صحيحة إذا أدت أجزاءه وظائفها الحيوية بصورة صحيحة ودون أي نقص أو خلل مهما كان ضئيلا.
إن هذه الحقيقة العلمية تنسف جميع مزاعم دعاة التطور لأن هذا التعقيد والتخصص في أداء الوظائف يجعلان من التطور التدريجي للكائنات الحية والذي يتبناه دعاة التطور ويدعون إليه أمرا مستحيل الحدوث.
وعلى سبيل المثال يستحيل أن يتكون أربعون جزءا شيئا فشيئا ليظهر في النهاية شيء يدعى العين لأن العين لا تؤدي وظيفتها دون اكتمال الأربعين جزءا التي تتألف منها، والعضو الفاشل في أداء وظيفته ينبغي اضمحلاله حسب قاعدة الانتقاء الطبيعي لنظرية التطور، وهذا المأزق يقع فيه التطورون بالنسبة إلى باقي أعضاء الكائن الحي المعقدة، أي أن حاسة الشم التي تؤدى من قبل أعضاء معقدة ذكرنا نفصيلاتها في الصفحات السابقة لا يمكن أن تختصر في أي جزء من أجزائها. فلأجل الإحساس بالرائحة ينبغي أن تؤدي السويطات والمستقبلات والخلايا الشمية والأعصاب الشمية والسائل المخاطي والخلايا القاعدية والبروتينات والأنزيمات الخاصة وأجزاء أخرى عديدة وظائفها، وأن تكون كلها بدون استثناء ضمن جهاز واحد. ولكن حتى لو عملت هذه الأجزاء بتكامل بعضها مع بعض فإن الجهاز لا يمكن اكتماله، إذ يجب على الأنف أن يفهم ما تم تحسسه من روائح، وهنا يأتي دور المخ الذي يعتبر من أكثر الأشياء غموضا 104، وخصوصا مخ الإنسان. فبدون هذه الأجزاء مجتمعة لا يمكن أن يكون هناك جهاز جسمي يؤدي وظيفة حياتية معينة.
ومثل هذا الجهاز الذي لا يمكن اختصار أي جزء من أجزائه، ويستحيل أن يكون قد مر بفترة تطورية، فالخلايا الشمية بدون المستقبلات والسويطات لا يمكن أن تفيد في شيء.. ولولا الأعصاب الشمية لما تم إيصال تأثير الروائح إلى مراكز التحسس. فإذن هناك سلسلة متكاملة من الفعاليات مرتبطة ببعضها البعض.
(وَحَدَائِقُ غُلبًا*وَفَاكِهَةً وَأَبًّا* مَتَاعًا لَكُم وَلأَنعَامِكُم) سورة عبس-الآيات 30-32
وإذا فقدت حلقة من حلقات هذه السلسلة المتكاملة فغنه لا يمكن أن يتشكل إحساس بالرائحة في المخ، وبالنتيجة يكون ظهور مثل هذا الجهاز المتكامل الحلقات على شكل وحدة متكاملة، أي ظهور كافة الأجزاء في آن واحد ودون أي نقص. والإحساس بالروائح يتطلب وجود جميع الأجزاء التي ذكرناها وعملها بتكامل وتنسيق فيما بينها. وهذا الأمر يقودنا إلى الحقيقة الآتية: إنّ حاسة الشم مثلها مثل جميع الأنظمة الموجودة في الكون خلقت بقدرة الله عز وجل، ويالرغم من اللامنطقية التي تحكم أفكار دعاة التطور فإنهم مازالوا متمسكين بفكرة التطور التدريجي للكائن الحي، وهذا يرجع إلى إصرارهم على عدم تقبل فكرة الخلق، وطالما بقوا رافضين لوجود خالق للكائنات الحية وغير الحية فسوف لن يجدوا لأنفسهم مخرجا من هذا المأزق الفكري.
أما حقيقة الخلق فقد بُلّغَ بها الإنسان عن طريق الآيات الإلهية، وهذه الآيات تتمثل فيما خلقه الله سبحانه وتعالى لعباده وما أكسبهم إياه من الصفات الجميلة والخصائص الفريدة. وبالرغم من افتقاد دعاة التطور لأي دليل يثبت صحة نظرياتهم العقيمة فإن نضالهم ضد مفهوم الخلق الإلهي للأشياء يمثل بابا يُولج من خلاله إلى ساحة البحث والتجربة واستكشاف خفايا عالمنا الذي نعيش فيه. ولا شك أن الله عز وجل قد جعل الحياة الدنيا دار امتحان لنا كما بينت الآية الكريمة الآتية: (وَمَا كاَنَ لَهُ عَليهِم مِن سُلطَانٍ إِلاَّ لِنَعلَمَ مَن يُؤمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّن هُوَ مِنهَا فِي شَكِّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلٍّ شَيئٍ حَفِيظٌ) سورة سبأ-21.
إنّ الذين ينكرون الآخرة سيظلون على دينهم في ابتكار أكاذيب جديدة لإنكار حقيقة خلق الله القدير للأشياء، أما الذين يؤمنون بالله وبقدرته فيزدادون إيمانا ويقينا عند رؤيتهم لآيات الله الباهرة في الحياة الدنيا، وكذلك يعدون لأنفسهم نعيما أبديا في جنات الخلد. ولعمري إنه الفوز الأعظم، أو كما بينت الآية الكريمة: (إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتٍ لَهُم جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ ذَلِكَ الفَوزُ الكَبِيرُ) سورة البروج-الآية 11.