الفطرية نقلة نوعية، من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام

الفطرية نقلة نوعية، من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام


الشيخ / فريد الأنصاري

المقال مترجم الى : English


أول سؤال نضعه في هذا السياق إذن هو: هل استنفدت "الحركة الإسلامية" أغراضها؟

لا خلاف في أن "الحركة الإسلامية" تعمل من أجل الدين على الإجمال؛ ولذلك قلنا قبل: إنها (بيان دعوي)([1]). لكن هذا إنما هو من حيث الطبيعة العامة المتصفة بها، والرغبة الوجدانية الكامنة فيها، والمسببة لنشأتها. وأما من حيث الصيغة المنهجية فهي مظهر (حزبي)، بالمعنى السياسي الغربي الحديث للمصطلح. يمكن أن يتجلى - على مستوى الشكل - في عدة صور اصطلاحية، من مثل مصطلح "جماعة"، أو "حركة"، أو "تنظيم"، أو "منظمة"، لكنه يرجع في النهاية إلى جوهر واحد. هو مفهوم "الحزب" بمعناه السياسي. وذلك بغض النظر عن مشاركته الفعلية في الانتخابات أو ما يسمى "باللعبة السياسية" على الإجمال، أو عدم مشاركته. فتلك قصة أخرى لا تغير من واقع الأمر شيئا! وإنما العبرة بالبنية المنهجية والتصورية التي تتحكم في مسار الحركة. حيث إن الحزب السياسي قد يكون له وجود حركي "مشارِك"، وقد يكون له وجود حركي "رافض"؛ وتكون مشاركته متحققة بالفعل من خلال الدعوة إلى "الرفض السياسي"؛ فيستوي بذلك مع الأول من حيث المآل المنهجي! ولذلك قلنا غير ما مرة: إنهما وجهان لعملة واحدة!

        ومن هنا يمكن أن نميز في الحركة الإسلامية بين شيئين : المظهر والمنهج.

        فالمظهر إسلامي. هذا على الإجمال، وقد فصلناه بأدلته في كتابنا "البيان الدعوي".

 وأما المنهج فمن الصعوبة أن ننفي عنه التأثر بالأطروحة السياسية بمعناها العلماني  الحديث، وبردود الأفعال المنهجية في مواجهة الأحزاب السياسية المعاصرة! هذا على الإجمال أيضا، مع عدم نفي الخصوص الديني للحركة الإسلامية. فالتأثر العلماني راجع في جوهره إلى تبني النموذج الغربي في "التغيير"، وتبني الأطروحة التاريخية الأروبية للثورات الدموية، أو للتحولات الديموقراطية. وفي كلا الصورتين تَبَنٍّ واع، أو غير واع؛ لمنهج التغيير العلماني. وهو في نهاية المطاف لا ينتج مجتمعا مجدَّدا؛ بقدر ما ينتج صورة ظلية لذلك المجتمع نفسه! مهما حدث من تحولات ديموقراطية وسياسية. فلا تحول في الجوهر! إذ الجوهر إنما هو وجدان الإنسان.

الوجدان – أو "القلب" بمفهومه القرآني لا العاطفي - هو مناط الإصلاح الديني في الإسلام. وهو الذي منه تنبع - على الحقيقة - المواقف والتصورات والتصرفات. والذي عنه تنشأ العلاقات الأفقية والعمودية، التي هي أساس بناء النسيج الاجتماعي، في صلة الإنسان بربه، وفي صلته بأخيه الإنسان، على سائر المستويات العقدية، والتعبدية، والاقتصادية، والسياسية، والعمرانية عموما. وهذا أمر لا تصل إليه الحركات الإسلامية بمناهجها الشكلانية هذه! فالوجدان لا يُصَنَّعُ إلا في مختبرات الدين، بما هو "دعوة إسلامية" بالدرجة الأولى!

        ومن هنا تكون "الحركة الإسلامية" عملا محدودا بحدود اجتهادية، وتنظيمية، وبشرية. إنها تصور بشري وضعي ذو أصول علمانية، لمنهج العمل في ترجمة قيم الدين ومقاصده! وهما أمران لا يجتمعان! ومن هنا لابست الإسلام وفارقته في آن واحد! فقد لابسته في (الانتساب) على مستوى القصد العام وتجلياته، وعلى مستوى الشعارات والبرامج العامة. وفارقته في (النسبة) على مستوى المنهاج، في أساليب العمل والإصلاح!

وربما كان لهذه الظاهرة مبرر وجود في مرحلة سابقة، مرحلة الدعاية الإسلامية وإعلاء الشعار، مما أنتجته بعثة التجديد السابقة. بيد أن المعركة الحضارية الجديدة قد تجاوزته بتحدياتها العميقة وأسلحتها الفتاكة الجديدة، التي تمس مفهوم الإنسان وفطرته! وتدمر نسيجه الاجتماعي وخصائصه الحضارية! مما تفرضه اليوم العولمة في صورتها الشمولية الجديدة.

 وإذا كان ذلك كذلك؛ فإن الحركة الإسلامية – بصورتها التقليدية هذه - محكومة بسنن الاجتماع البشري، تماما كالحضارات والدول بالمعنى الخلدوني، أي أن لها مرحلة نشأة، ومرحلة نضج واكتمال، ثم مرحلة هرم وانهيار. ولا يعني ذلك طبعا أن الإسلام يتأثر ضرورة بما يصيبها، فقد ينشئ الله جل جلاله لدينه موجة تاريخية أخرى، تحمله وتؤصل دعوته.

قال جل وعلا: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)

(محمد:38)

، وقال سبحانه: (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوءَةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ)

(الأنعام:89)

. فهذه قضية أخرى. والإسلام قائم حتى قيام الساعة!

        وإنما حديثنا عن الحركة الإسلامية هنا إنما هو باعتبارها تجربة بشرية، أي بما هي حركة متولدة في التاريخ، محكومة بالسنن الربانية، التي تحكم سائر التجارب والمكاسب البشرية في المجتمع. فهي سنن ثابتة، لا تحابي أحدا، ولا تتحامل على أحد.

قال تعالى: (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)

(الأحزاب:62).

وعليه فإننا نحسب أن الحركة الإسلامية في صيغتها التقليدية هذه، قد استنفدت أغراضها، أو -  بالتعبير الأدق - هي على وشك ذلك. ونقصد بالصيغة التقليدية: الصورة الحزبية التي اكتسبتها الحركة الإسلامية الحديثة في نشأتها؛ تأثرا بالنظام الحزبي الغربي. وقد بينا أن معظم الحركات الإسلامية اليوم في العالم الإسلامي؛ هي على تلك الشاكلة، سواء منها التي تسمت باسم (الحزب)، أو التي تسمت باسم (الجماعة)، أو (الحركة)، فجوهرها جميعا واحد. ومعنى هذا أن الإسلام بما هو دين الله القدري، سينطلق ببعثة تجديدية أخرى، تتجاوز الحركة الإسلامية الحزبية في صورتها الحالية.

  نعم، إن التحولات العالمية الحديثة، في صورتها (العولمية) التهويدية، سائرة في اتجاه تغيير بنية المجتمعات الإسلامية؛ وذلك بمخاطبة إرادة الشعوب مباشرة، وتجاوز الوسيط السياسي الرسمي، الذي لم تعد لديه أي مقومات لإقناع الشعوب، خاصة والقوى العالمية الاستعمارية، تدرك جيدا أنه اليوم - أكثر من أي وقت مضى - لا يملك إرادة الشعوب، وإن كان يملك السلطان السياسي بصورة نسبية.

 إن العولمة الجديدة - في صيغتها الأمريكية الاستهلاكية - لا تسعى إلى إخضاع العالم الإسلامي، عسكريا واقتصاديا فحسب؛ على طريقة استعمار القرن التاسع عشر والعشرين؛ ولكنها تسعى إلى إخضاع الإرادات، أو بعبارة أدق: احتلال الإنسان من حيث هو انتماء وولاء ووجدان! تماما كما وقع للشعوب الأمريكية الأصلية، أو ما بقي منها، وما يقع للشعوب الأسيوية القصوى، مثل اليابان خاصة. هذا البلد الذي كان مضرب مثل لكثير من الدارسين العرب - ومنهم حتى بعض الإسلاميين! - الذين ينظرون إلى سير الحضارة، وإلى حركة التاريخ؛ بعين واحدة فقط! فرأوا في التجربة اليابانية نموذجا للنهوض! لكنهم نسوا حقيقة أخرى خطيرة، وهي أن نهوض الشعب الياباني ماديا كان على  حساب فقدان الإنسان الياباني! لقد حل الوجدان الأمريكي في إرادة المجتمع الياباني، ولم يبق له من خصوصيته الثقافية والأنطروبولوجية غير مظاهر محدودة من الفلكلور السياحي ليس إلا! ولا يغرنك منهم هذا الاحتجاج، أو تلك المظاهرة ضد السياسة الأمريكية في العالم، فقد انخرط ذلك كله في نقد أمريكا بوجدان أمريكا! وانتهى وجود اليابان الإنسان!

ثم إن مقارنة إنسان اليابان – بخلفيته الحضارية والدينية المناقضة للإسلام تمام المناقضة - مع إنسان الإسلام، هي في الأصل أغلوطة فاسدة! إذ لا قياس - في خصوص هذا الشأن - مع وجود الفارق! كيف وها الفارق عميق جدا!؟

  نعم لقد استعصى العالم الإسلامي وحده حقا على الابتلاع، وأبى أن يدور في ماكينة التغريب رغم كل ما حدث! ورغم ما تعرض له من تشوهات في طبقته (المثقفة) والأرستقراطية، وسائر شرائحه الاجتماعية، بقدر من التفاوت في التأثر والتشوه؛ بين هذه الشريحة أو تلك، حسب ما تعرض له من مناهج تعليمية وإعلامية. لكن جوهر الإنسان فيه بقي قريبا من فطرته على الإجمال، مصراً على تجديد ذاكرته. ولم يفقد الرغبة ولا الأمل قط في توظيفها من حين لآخر. وليس وجود الحركات الإسلامية نفسها – رغم نقدنا لها - إلا نوعا من التعبير عن هذه الرغبة، ومقدمة من مقدمات توظيف تلك الإرادة.

 إن الاستعمار قد أدرك ذلك جيدا؛ ولذلك فقد أنتج (العولمة)، باعتبارها أحدث خطة لاحتواء الوجود الإسلامي الراسخ في وجدان الأمة! فإلى أي حد تستطيع (الحركات الإسلامية) في صيغتها الحزبية التقليدية - وهي التي نشأت في ظل رد الفعل الاستعماري القديم - أن تستجيب لتحديات العولمة في صورتها الجديدة؟ التي تحمل مشروع تهويد العالم؛ لتحقيق ما يسمى في المنظومة الصهيونية بـ(إسرائيل الكبرى)؟ وواضح جدا أن دون ذلك قتل الوجدان الإسلامي في الأمة، بشتى ألوان المسخ والتشويه!    

العولمة إذن؛ ما تزال في طور نشأتها، بل لم يكتمل تشكلها بعد، ولم تلتئم صورتها الكلية على تمامها ولم يزل لها في المستقبل القريب نتاج جديد قصد تكميل الصورة!

أين الحركة الإسلامية إذن – بصورتها الموصوفة - من هذا كله؛ وعيا وإرادةً، ومنهجَ عملٍ وجهاد؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي يمثل صلب هذا البحث وجدواه!

 إننا نعتقد أن الحركات الإسلامية ستتطور إلى مآلات، هي نتيجة للمقدمات التي انطلقت منها ابتداءً، وهي (الحزبية التقليدية) نفسها. أو بعبارة أخرى (حركات) الحاضر هي (أحزاب) المستقبل!

 فالقوى الاستعمارية الحديثة تسعى - عن طريق نظمها الديمقراطية، واكتساحها العولمي - إلى إخضاع الحركات الإسلامية للعبة، وإدراجها ضمن مقولة (النظام العالمي الجديد). إن لغة التهديد والتجويع والحصار، واللائحة السوداء للأنظمة، وللمنظمات والأشخاص، وما اكتنف ذلك كله من لغة إعلامية مدمرة، على المستوى النفسي والاجتماعي والسياسي، كمصطلح (الإرهاب) مثلا، ومصطلح (التطرف)، و(الأصولية)، وما شابهها من خدع لغوية، تستصنع في المعامل الصهيونية (للسانيات الحديثة)، هذه المعامل المخبرية، الخبيرة في تحريف الكَلِمِ عن مواضعه!

قال تعالى: (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ)

(النساء:46).

وتدبر بعد ذلك - في ضوء زماننا هذا -

قوله تعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ. وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا. أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ. لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)

(المائدة:41).

اقرأ وتدبر ثم أبصر

(يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ)!

أليس كذلك؟ بلى والله! إنه اليوم أظهر مما كان من قبل! كل ذلك إنما هو صور من (طُعْم) للصيد؛ من أجل الدخول في قفص (العولمة) أو (الديمقراطية الأمريكية)، فبالنسبة لي لا فرق بين هذه وتلك في نهاية المطاف. إنها في الجوهر فلسفة واحدة.

 واستجابت فعلا كثير من الحركات الإسلامية لذلك! فهي الآن تتخلى عن كثير من منطلقاتها ومصطلحاتها، وتنتج (فقها) جديدا، يناسب حداثة العولمة، ويدور في ماكينتها، شيئا فشيئا! إنها صارت تنتج جزءا من خطاب المقولات العولمية الجديدة، التي تشكل نوعا من الترويض، أو التدجين للإسلاميين، على مستوى المفاهيم وإنتاج الخطاب. وكلاهما أمر جوهري خطير في عملية فقه الدين. إنها حركة تحريف مفهومي شامل! إنها - بلغة (الآخر) – عملية (أنسنة) الإسلام، أي إفراغه من مضمونه الرباني التعبدي، حيث يحل الإنسان - عندهم - محل الرب، في مركزية التفسير الوجودي والتشريع الاجتماعي!

 إن استجابة الحركة الإسلامية اليوم هي نوع من الاعتذار اللاشعوري للغرب، ونوع من البرهنة على صلاحيتها للدخول في النظام العولمي، والتحدي الديمقراطي، وإظهار لنوع من (حسن السيرة)، و(صلاح المواطنة) على موازين المقياس الأمريكي!

  من يجرؤ اليوم على اتهام الديموقراطية اللييرالية؟ هذا الصنم العولمي الجديد! بالأمس كانت الأصنام الشيوعية تمارس نوعا من (ديكتاتورية البروليتاريا)، على المستوى الثقافي والسياسي! فلا تسمح لأحد بانتقاد الصنم الماركسي أو اللينيني! واليوم أصبح تمثال الحرية في أمريكا - الذي ليس له من مدلول الحرية غير التمرد على حقوق الله – صنما يعبد من دون الله الواحد القهار! صنما منتصبا لحماية مفاهيم (الليبرالية) بأبعادها الفلسفية والسياسية، وفرضها على العالم الإسلامي، ليس بما يضمن حقوقه السياسية، كلا! فمن يصدق هذه الأكذوبة إلا ساذج أو بليد! ولكن بما يذيب مفهوم (الإنسان) فيه، ويصهره في آلة الاستهلاك المدمرة! حتى يكون عبدا خسيسا للوحشية العولمية الجديدة! ولحركة تدمير القيم والأخلاق، بما لم يعرف العالم الإسلامي له مثيلا في التاريخ!

 إن الحركة الإسلامية باستجابتها لشيء من ذلك؛ يعني أنها قد أخذت بـ(مقدمة  أولى) – بالمعنى المنطقي للكلمة – من شأنها أن تنتج على سبيل اللزوم (نتجية) حتمية: هي الدوران في فلك العولمة. نعم ربما دارت فيه على سبيل النقد والمعارضة، ولكن تماما كما هي أحزاب أوروبا المعارضة للعولمة، والتلوث البيئي، وحماية الحيوان البري! بمعنى أن ذلك لا يخرج من دائرة (الأنا) العولمية نفسها، ومركزية الإنسان الغربي. وما عسانا أن نكون في هذا الاتجاه إلا تَبَعاً!

 إن الصيغة التنظيمية للحركات الإسلامية، وآليات اشتغالها اليوم، وكذا جوهر خطابها الحركي، مما تنتجه في أدبياتها وتجمعاتها، وخصوص خلاياها؛ كل ذلك كفيل بإدخالها نادي (النظام العالمي الجديد) على حد تعبير الأمريكان!

  إن دخولها (النظام العالمي) ليس يعني أنها تصير له بوقا، بالمعنى التقليدي للكلمة، كلا! فليس هذا مقصودنا، وهو تصور تبسيطي لطبيعة العولمة!  وإنما المقصود بدخولها  هو الخروج من عالم (اللامفهوم) أو (اللامدرَك) – بالنسبة للحسابات الأمريكية ودراساتها الاستراتيجية - إلى عالم (المفهوم) أو (المدرَك)! وانتقالها من عالم (الخوارق والمفاجآت) إلى عالم (العوائد والطبيعيات) القابلة للحسابات! وذلك هو عين المقصود. حيث تصبح الحركة الإسلامية بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية رقما قابلا للإدراك، وعددا قابلا للحساب! وإذن؛ توضع في موضعها من خريطة التخطيط الأمريكي الصهيوني بسهولة، وتصبح في سياق معارضتها ونقدها؛ قابلة للإعمال والاستعمال، وللتحييد والإهمال! أو على الأقل قابلة للمعَالجة الميكانيكية! ونتائجها قابلة للتوقع، وللإدراج في معادلة الإمكانات والاحتمالات الرياضية المدروسة بعناية. وليس لذلك من معنى عندي إلا أن الحركة الإسلامية قد فقدت كثيرا من خصائصها الربانية، ومقوماتها الإيمانية. فأشبهت آلة ميكانيكية ليس إلا!

 أما أحزاب الماضي الرسمية، القومية منها والوطنية، والماركسية، والعلمانية، والعنصرية، وكذا الكرتونية؛ فمآلها – بناء على تحولات الحاضر الجارية - إلى التحول أيضا أو إلى الانقراض! فتلك أحزاب ما بقي من حقيقتها اليوم غير أشكال باهتة، سواء في ذلك ما تجلى في قياداتها الشائخة الهرمة، ليس من حيث هي أجساد بشرية، ولكن من حيث هي أجساد تنظيمية وأيديولوجية. أما رصيدها على المستوى الوجداني الشعبي فعلى دركات تحت الصفر! ولذلك فإما أن تتحول إلى (الإسلامية)، ولو بصورة انتهازية؛ وإما أن تنقرض إلى الأبد. وتصبح جزءا من التاريخ الذي كان!

 ولِمَ (الإسلامية)؟ ببساطة لأنها المرجعية المستقبلية لأحزاب العصر العولمي الجديد، حيث بدأ الإسلام يصنف عالميا - عند العدو والصديق - بأنه هو المحرك الأساس للشعوب في العالم الإسلامي! وهو المرشح في الإدارة الأمريكية الصهيونية للمخاصمة الجديدة، ولتسويغ التسلح العالمي المجنون في حرب باردة أو حارة! وقد بدأ ذلك يتضح، وتتجلى ملامحه منذ انهيار المنظومة الماركسية، بسقوط صرح الاتحاد السوفياتي البائد.

  الدور الحزبي المقبل إذن؛ هو دور (الحركات الإسلامية)، فهي المؤهلة لذلك، وهي المقصودة للعب هذا الدور. وقد بدأت بالفعل في ممارسته بإعلان رسمي أو بغير إعلان، في أغلب دول العالم الإسلامي. فالهيآت التنظيمية الإسلامية، المشاركة صراحة في اللعبة السياسية، قد دشنت هذا الاتجاه بإرادتها، وأما الهيآت التنظيمية الإسلامية الرافضة، أو المعارضة؛ فقد دشنته أيضا بمعارضتها. وبهذا فهي تمارس نوعا آخر من المشاركة السياسية بطريقة أخرى. وإن أعلنت في خطابها (رفضها) لكل أشكال المشاركة، ولكن رفضها يصدر بالمنهج نفسه الذي تعتمده حركات المشاركة، أي منطق الحزبية. إنه مجرد رفض موقفي. إنه محكوم بالموقف من عقلية الحاكم، أو من طريقة تنصيبه، لا من فقه الدين وميزان أولوياته، ولا من مفهوم المجتمع الإسلامي وطبيعة مؤسساته. ومن هنا وقع تأصيلها لفعلها السياسي في لوثة التضخم! فهي إذن تتكلم من داخل الجبة العلمانية من حيث لا تدري. ولذلك فهي أقرب إلى التحول الكامل إلى الصورة الحزبية العتيقة، لكن في صورة إسلامية.

و"الرفض" و"المشاركة" بمعناهما السياسي – في خصوص العمل الإسلامي التنظيمي - خطان متجاوران إلى ما يقارب الترادف، وهما ممتدان على طول العالم الإسلامي تقريبا. وكلاهما يؤول أمره - بصورة أو بأخرى - إلى وضع لعب دور الأحزاب السياسية الشائخة، مُشَارَكةً ورفضاً. لا سيما وأنهما يمتلكان كل مقومات الحزبية: "التنظيم الميكانيكي"، و"التعبئة الاستعراضية"، و"الخطاب السياسي المُنَمَّط". ووصفنا خطاب الحركات الإسلامية بأنه (مُنَمَّط) مقابل لما هو موجود عند الأحزاب التقليدية العتيقة، من خطاب سياسي (مُؤَدْلَج). حيث تتخذ تلك الحركات (رؤية) معينة للعمل السياسي. ترجع إليها تفكيرا وتأطيرا. فلا تكاد تجد من بين أفرادها من يفكر خارج تلك الدائرة، ولو بشيء بسيط من الاختلاف، مع أن المجال اجتهادي صرف! ومع أن رؤيتها المرجعية تلك ليست هي "الإسلام" كما تدعي بعض فصائلها، وإنما هي (فهم معين) للسياسة في الإسلام. إنها  اجتهاد قابل للخطأ كما هو قابل للصواب. لكن أخطر مشكلة تعاني منها في هذا الصدد هي أنها تقوم بنوع من (الاستصلاح) للفكر السياسي الغربي، فلا تنجو - لذلك - كثير من مقولاتها السياسية من التلوث بأصولها العلمانية! نعم لا نشك أدنى شك في أن هدفها الكلي، ومقصدها الغائي فعلا هو الإسلام. ولكن فرق بين (القصد) أو (الهدف) وبين (خطاب القصد) أو (خطاب الهدف) إذ ليس بالضرورة كل خطاب مؤد إلى قصده لزوما. فربما زاغ عن هدفه؛ لعلة في منهج الخطاب والعمل! وهذا فرق ما بين نقدنا ونقد (الآخر) الذي تمارسه الاتجاهات العلمانية للحركات الإسلامية. إننا لا نقول بأنها (تستغل) الدين بالمعنى (البراجماتي)؛ لتمرير خطابها السياسي كما يقول بعض سفهاء العلمانيين كلا! فهذا مجرد نقد (إيديولوجي) ليس إلا! إننا على يقين بأن الحركات الإسلامية إنما تتعبد – على الإجمال – بفعلها الحركي السياسي، سواء أصابت في ذلك أم أخطأت. لكننا على يقين أيضا في أنها تتعبد من خلال فهمها الخاص للدين، ولا يمكنها إلا أن تكون كذلك. إذ المجال السياسي تفوق نسبة الرأي والاجتهاد فيه - من مجمل التشريع الإسلامي - درجة التسعين بالمائة! كما فصلناه بأدلته في كتاب (البيان الدعوي). وهذا معنى قولنا: إنها تملك الخطاب السياسي المُنَمَّط، بما هو عنصر أساس من مكونات الحزبية.

  وبتوفر العناصر الثلاثة المذكورة (التنظيم الميكانيكي، والتعبئة الاستعراضية، والخطاب السياسي المنمَّط) تكون الحركة الإسلامية مؤهلة فعلا – كما ذكرنا – لمآلها التاريخي: التحول والاندماج الحزبي الهيكلي. ذلك أن ما وصفنا من طبيعتها مؤشر قوي لقابليتها لذلك، على حد تعبير مالك بن نبي رحمه الله في نظرية (القابلية للاستعمار). وجزء مهم من هذا المتوقع غدا هو - على كل حال - واقع اليوم! فما بقي من الصورة في الحقيقة إلا التكميل والتتميم. إذ لا يكاد يخلو قطر من أقطار العالم الإسلامي اليوم؛ من شيء من ذلك؛ صراحة أو ضمنا.

  وقد يقول قائل: إن الحركات الإسلامية هي غير الأحزاب التقليدية، من حيث القدرة على احتوائها، وتوجيهها من لدن الغرب ومؤسساته العالمية؛ فنقول: نعم! هي غير ذلك من وجه، ولكن لها نوع من القابلية لذلك من وجه آخر: وهو الاستجابة لمقولات الخصم الحضاري الثقافية والسياسية والاقتصادية، كما أشرنا إليه من قبل؛ ولذلك وُجدت العولمة والنظام العالمي الجديد. ومن هنا كان التوجه الاستعماري الجديد ليس إلى محاصرة الحركات الإسلامية فحسب؛ ولكن أيضا إلى (منافستها)! وهذا ما لم تنتبه إليه بعض الحركات الإسلامية بصورة جيدة لحد الآن! وهذا هو الاتجاه الراجح الآن في الصراع الحضاري العالمي: المنافسة على الإنسان في العالم الإسلامي! إن العولمة عملت جهدها على فتح الحدود الاقتصادية والثقافية والإعلامية؛ من أجل التمكن من الاشتغال المباشر؛ لاحتلال الشعور الفردي ثم الاجتماعي.

        العولمة إذن تقوم بوظيفتين: الأولى فتح الحدود الأنطروبولوجية، والثانية: المنافسة على الإنسان في العالم. أو بعبارة أخرى احتلال الإنسان المسلم!  ومن هنا فإن الحركة الإسلامية لن تواجه أمريكا، أو الصهيونية، أو الغرب فقط؛ بل ستواجه (الصوت الآخر) في مجتمعها أيضا! بل ربما في صفوفها وفصائلها أيضا! وهذا أسوأ ما يتوقع من هزيمتها! وقد شاهدنا بعض تجلياته - مع الأسف - على مستوى الفكر وعلى مستوى الممارسة. حتى لكأنك أمام (علمانية إسلامية!) لكن ليس بالمعنى التقليدي.

إن المواجهة لن تكون كما كانت من قبل ضد طابور العملاء السياسيين، أو الموالين ثقافيا للغرب، من اللائكيين واليساريين، كلا! فتلك حرب – في منطق الرؤية المستقبلية - انتهت ووضعت أوزارها! إن المواجهة الجديدة ستكون ضد (نمط الحياة) الأمريكية! الذي لن يقصر على النخبة المغتربة فكريا، أو على الطبقة الأرستقراطية، بل هو يصبح الآن بالتدريج نمط الشعوب الإسلامية! بمن في ذلك الإسلاميون أنفسهم، من باب مقولات (الأسلمة)، و(التثاقف)، والانفتاح على (المجتمع المدني). إن معنى ذلك أن الحركة الإسلامية ستواجه خصمها في ذاتها! ومعنى ذلك أيضا خطر خسران المعركة حضاريا؛ لأن الجسم لم يخلق ليحارب نفسه بل ليحميه. ومن هنا ستحتاج الأمة إلى (مضادات حيوية) جديدة وإلى (بعثة) أخرى! كما سيأتي بيانه بحول الله.

  إن قدرات الحركات الإسلامية ذات الطبيعة الحزبية، لن تعدو حدود مقاومة الظلم السياسي، والاختلال الاجتماعي، والإسهام إلى حد ما في التوجيه الاقتصادي والإعلامي... إلخ. وكل ذلك شيء مهم جدا، ولكن الأهم منه هو العمل الاستراتيجي المتعلق ببناء الرصيد الروحي المنتج للأجيال، وتوسعة (الاحتياطي) في مجال بناء الإنسان القرآني! وتأثيرها في هذا الآن محدود جدا ضمن دوائر ضيقة، ولن تزداد – مع تبلورها الحزبي - إلا ضيقا! لما للمنهجية الحزبية من ارتباطات ميكانيكية، تغرقها في الجزئي واليومي.

  وقدرة الحركة الإسلامية وإمكاناتها - بما وصفنا - هو عينه دور الأحزاب التقليدية في الماضي، وهو ما سيناط، بل قد أنيط فعلا ببعض الحركات الإسلامية، التي هي في طور التهيء للقيام بذلك. وهو بالنسبة إلى التحديات الشمولية للعولمة عمل محدود جدا. لن يبلغ حد التغيير الكلي للإنسان، مادامت آلة الاشتغال الحزبي هي الوسيلة الوحيدة المتوفرة لديها للعمل. وهذه الوسيلة هي نتاج أوربي، ومنهج غربي، لا يعدو في طبيعة تأطيره مجرد صناعة (الرأي العام) المؤقت والمتقلب! والديموقراطية الليبيرالية التي هي فضاء وجود الحزبية لن تؤدي أبدا إلى نقض أصولها، مادامت فلسفتها قائمة في منهجها. ولا يمكن للمنهج أن ينقض مذهبيته، أو ينقلب على فلسفته، وما وجوده إلا بها. وقد تقرر عند أرباب "المنهجيات" أن المناهج وفية لمذاهبها، ومن ظن إمكان تجريد المنهج عن مذهبيته فهو واهم!([2]) نعم سيؤدي نضاليا إلى توجيهها من الداخل، بمعنى أن الحزبية الإسلامية ستعطي للديموقراطية مسحة إسلامية؛ لكن دائما في حدود الإمكانات المحسوبة، والقابلة للنقض في كل وقت وحين؛ إذ (الرأي العام) الذي يحسمه (العوام) هو الممثل الشرعي والوحيد لمصداقية اللعبة. وما الرأي العام الذي يصنع في أسابيع إلا ريح الأهواء، وأصوات الغوغاء!

ثم قد يقول قائل: إذن، إذا وعت الحركة الإسلامية ذلك ؛ فإنها تحسب كل تلك الإمكانات فتخرج عن حد أهداف العولمة. فنقول: لا يمكنها ذلك إلا إذا خرجت عن طبيعتها (الحزبية)، التي نشأت عليها، بما وصفنا؛ إلى شيء جديد. وهو ما نرجو أن تلده الأيام  بحول الله. أو تبقى على طبيعتها تلك فتكون إذن محكومة بإمكانات (اللعبة الحزبية). وهي جميعها آئلة بطبيعتها إلى محيط العولمة! ولا منزلة بين المنزلتين! فتوجه العولمة يشتغل الآن وليس غدا! وتوقع نتائجها مبني على مشاهدة مقدماتها!  فإنما ننطلق إلى المجهول من المعلوم، بناء على المنطق الرياضي.

        أليس معظم الحركات الإسلامية حزبي التنظيم؟ أليست ترجع في بنائها التسلسلي إلى نموذج الحزب السياسي؟ ثم أليست ذات أطروحات مختلفة، واجتهادات متباينة؟ ثم أليست تتفرق بشكل تناسلي إلى جماعات وجمعيات، كما تتناسل الأحزاب القومية والعلمانية، ويَنْشَقُّ بعضها عن بعض؟ لأسباب سياسية وشخصانية؟ فإنها بهذا وبما ذكر قبله تنساق تحت تأثير نَجْشِ الصياد الأمريكي شيئا فشيئا إلى قفص (اللعبة الديموقراطية)؛ لتقف أمام المشاهد الغربي، كما تقف الحيوانات الآبدة في أقفاص حديقة الحيوان! 

        إن الابتلاء العولمي المشتغل الآن، هو أعظم وأشمل من أن تواجهه حركات إسلامية محدودة الغايات والوسائل. حركات بقيت حبيسة آليات تنظيمية، ووسائل تنفيذية، هي من تراث مرحلة الاستعمار القديم، وظروف سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية، ونتاج ردود فعل؛ لصيحات الماركسية والقومية، التي تلاشى صداها في الماضي!    

  إن بصائر القرآن، وسنن التاريخ، وطبيعة التحولات الكبرى في العالم الإسلامي، وخروج الدجال العولمي؛ كل ذلك يحدثنا عن ميلاد شيء جديد في أفق العمل الإسلامي!

المراجع

  1. البيان الدعوي: 24-41.
  2.  أبجديات البحث في العلوم الشرعية للمؤلف:9.


السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ الفطرية نقلة نوعية، من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day