التداولية القرآنية
إن "التَّدَاوُلِيَّةَ القُرْآنِيَّةَ" هي التي صنعت المجتمع الإسلامي الأول، على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي التي حضَّرت جيل الهجرة، وخرجت رجاله "الأقوياء الأمناء" بمجالس القرآن، من دار الأرقم بن أبي الأرقم ومن بين شعاب مكة، وهي التي صنعت الدولة الإسلامية الأولى؛ انطلاقا من مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة المنورة.
إن بث بصائر الآيات في المجتمع، عبر شبكة العلماء الربانيين، المنظمين بهندسة القرآن الدعوية؛ يكفيك ويغنيك عن تأمير الأمراء بصورة ميكانيكية، وانتخاب النقباء، وإنشاء الخلايا المعقدة! فالقرآن وحده نظام البعثة وتنظيمها؛ لكن لو كان له مهندسون مبصرون! فالتنظيم الحزبي له مصالحه وله مفاسده، والتنظيم الفطري يجلب تلك المصالح، ويدرأ تلك المفاسد.
ولا يصلح للدعوة غير ذلك، إذ كان المقصود الاستجابة لداعي بعثة التجديد، فتدبر سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بث الإسلام بين الناس، وفي تربيتهم على مبادئه، إنما كان يُؤَمِّر "القُرَّاءَ" وهم العلماء بالقرآن، ويرسلهم إلى الأمصار، ويختار من أصحابه أعلمهم وأحكمهم؛ للمهمات القيادية، والأمور الصعبة. وجاهد بذلك المنهج السهل البسيط، يكتشف الطاقات ويؤهل القيادات، وينيط بها رسالة القرآن؛ لتدور في تداولية شاملة، بصورة حلزونية منفتحة أبداً، تستوعب المجتمع شيئا فشيئا؛ حتى نزل قوله تعالى:
(إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)
(سورة النصر).
إن المراهنة على الهياكل التنظيمية، ذات التركيبة الحزبية الميكانيكية؛ لإقامة الدين بصورة كلية؛ لهي مغامرة خاسرة! حتى ولو وصلت إلى امتلاك السلطة! إذْ لا يمكنها أن تحمل الناس على الدين حملا، ولا أن تجعله حركة وجدانية في المجتمع. ولا هي قادرة أن تستوعبهم دعويا ولا تربويا. فتنظيمها الحزبي هو بطبيعته نموذج تجزيئي، فلم يضعه الفكر البشري ليستوعب الجميع، بل ليستوعب فئة محدودة جدا من الناس، ويبقى المجتمع بعيدا عن هموم التنظيمات والأحزاب، وصراعاتها!
فدع بصائر القرآن العظيم، تصنع خريطتها الفطرية في المجتمع، كل المجتمع، وتبسط هندستها العمرانية بين شرائحه، كل شرائحه.
وإنما خلايا التنظيم الفطري هي "مجالس القرآن"، من الفرد إلى الأسرة، إلى المجموعات إلى المؤسسات. وإنما رأيه العام هو "التداول الاجتماعي" التربوي للآيات والسور، وإنما مقراته هي المساجد! وإنما قياداته هم العلماء العاملون، والحكماء الربانيون، المنتصبون للبعثة والتجديد.([1])
والسر كل السر في القرآن! ذلك هو الحبل القوي، الرابط بين الناس، الصانع لنسيجهم الاجتماعي، بما يفوق قدرة الحركات والتنظيمات!
وتدبر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض!)
رواه الطبري عن أبي سعيد الخدري مرفوعا، وصححه الألباني في صحيح الجامع:4473. وقد روى الترمذي نحوه في جزء حديث له عن زيد بن أرقم مرفوعا، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 2458.
ويفسره حديثه الآخر حينما خرج على بعض أصحابه بالمسجد،
فقال عليه الصلاة والسلام: (أبشروا! أبشروا! أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا القرآن سبب، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به! فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبدا!)
رواه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في شعبه، وابن أبي شيبة في مصنفه، والطبراني في الكبير، وعبد بن حميد فى المنتخب من المسند. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 713.
أما أهل البعثة من العلماء الفاعلين، والربانيين المتفاعلين؛ فلا بد من اجتماعهم على كلمة سواء، في بناء المنهج وبعث المجالس، وبث نشاطها ومواجهة تحدياتها؛ بما يكفل تحقيق "بعثة التجديد"، ويصنع للأمة رجالها من داخل المجتمع. لا بد من تأليف الكلمة، وترتيب المسيرة؛ لتنطلق البعثة عبر مدارجها، ومراحلها، وفقه أولوياتها؛ من المجالس إلى المدارس، ومن عمران الإنسان إلى عمران السلطان.
(وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ!)
(يوسف:21).
ذلك ما يَسَّرَ اللهُ تقييدَه ههنا من هذا الْمَعْلَمِ اللطيف. وقديما قالوا: (يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق!) كذلك، وإنما الموفق من وفقه الله.
المراجع
- ن. ذلك مفصلا في: "مجالس القرآن".