النداء السابع و الاربعون : تحريمُ خيانة الله والرسول
النداء السابع و الاربعون : تحريمُ خيانة الله والرسول
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27)وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) } سورة الأنفال
نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَبِي لُبَابَةَ حِينَ بَعَثَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ لِيَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ ، فَاسْتَشَارَ اليَهُودُ أَبَا لُبَابَةَ - وَكَانَ حَلِيفاً لَهُمْ - فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِالنُّزُولِ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ بِيَدِهِ إلَى حَلْقِهِ ، أَيْ أَنَّه الذَّبْحَ . ثُمَّ شَعَرَ أَنَّهُ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، فَرَبَطَ نَفْسَهُ فِي سَارِيَةِ المَسْجِدِ تِسْعَةِ أَيَّامٍ لاَ يَذُوقُ طَعَاماً حَتَّى تَابَ اللهُ عَلَيْهِ ، فَأَطْلَقُهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم . ( وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ ، الذِي أَرْسَلَ رِسَالَةً إِلَى قُرَيْشٍ مَعَ امْرَأَةٍ يُعْلِمُهَا فِيهَا بِأَنَّ الرَّسُولَ تَجَهَّزَ لِغَزْوِهِمْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ) . وَالآيَةُ عَامَّةٌ .
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِأَنْ لاَ يَخُونُوا اللهَ بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ ، وَأَنْ يَخُونُوا رَسُولَهُ بِتَرْكِ سُنَنِهِ ، وَارْتِكَابِ مَعْصِيَتِهِ ، وَأنْ لاَ يَخُونُوا أَمَانَاتِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ التِي ائْتَمَنَ اللهُ العِبَادَ عَلَيهَا : يَعْنِي الفَرَائِضَ ، وَهِيَ تَشْمَلُ أَمَانَةَ الإِنْسَانِ نَحْوَ النَّاسِ فِي تَعَامُلِهِ مَعَهُمْ : كَالمِكْيَالِ وَالمِيْزَانِ ، وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِالحَقِّ وَالصِّدْقِ ، وَكِتْمَانِ السِّرِّ . . إلخ . فَالأَمَانَةُ وَاحِدَةُ وَلاَ تَبْعِيضَ فِيهَا ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ مَسَاوِىَء الخِيَانَةِ ، وَسُوءَ عَاقِبَتِهَا .
إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمُ الأَمْوَالَ وَالأَوْلاَدَ لِيَخْتَبِرَ إِيمَانَكُمْ ، وَلِيَرَى هَلْ تَشْكُرُونَ رَبَّكُمْ عَلَيْها ، وَتُطِيعُونَهُ فِيهَا ، أَمْ تَشْتَغِلُونَ بِهَا عَنْهُ ، وَتَعْتَاضُونَ بِهَا مِنْهُ؟ وَثَوابُ اللهِ وَعَطَاؤُهُ وَجَنَّاتُهُ خَيْرٌ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ ، فَالأَوْلاَدُ قَدْ يَكُونُ مِنْهُمْ عَدُوٌّ لَكُمْ ، وَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ لاَ يُغْنُونَ عَنِ الإِنْسَانِ شَيْئاً يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَلَدَى اللهِ الثَّوَابُ الجَزِيلُ الذِي يُغْنِي الإِنْسَانَ عَنِ المَالِ وَالوَلَدِ .
إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله والرسول . فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية: "لا إله إلا الله , محمد رسول الله" . . قضية إفراد الله - سبحانه - بالألوهية ; والأخذ في هذا بما بلغه محمد صلى الله عليه وسلم وحده . . والبشرية في تاريخها كله لم تكن تجحد الله البتة ; ولكنها إنما كانت تشرك معه آلهة أخرى . أحيانا قليلة في الاعتقاد والعبادة . وأحيانا كثيرة في الحاكمية والسلطان - وهذا هو غالب الشرك ومعظمه - ومن ثم كانت القضية الأولى لهذا الدين ليست هي حمل الناس على الاعتقاد بألوهية الله . ولكن حملهم على إفراده - سبحانه - بالألوهية , وشهادة أن لا إله إلا الله , اي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية - كما أنهم مقرّون بحاكميته في نظام الكون - تحقيقا لقول الله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) . . كذلك كانت هي حملهم على أن الرسول هو وحده المبلغ عن الله ; ومن ثم الالتزام بكل ما يبلغهم إياه . .
هذه هي قضية هذا الدين - اعتقادا لتقريره في الضمير , وحركة لتقريره في الحياة - ومن هنا كان التخلي عنها خيانة الله لله والرسول ; يحذر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به وأعلنت هذا الإيمان ; فأصبح متعينا عليها أن تجاهد لتحقيق مدلوله الواقعي ; والنهوض بتكاليف هذا الجهاد في الأنفس والأموال والأولاد .
كذلك يحذرها خيانة الأمانة التي حملتها يوم بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام . فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان , وليس مجرد عبارات وأدعيات . إنما هو منهج حياة كاملة شاملة تعترضه العقبات والمشاق . إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة أن لا إله إلا الله ; وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق ; ورد المجتمع إلى حاكميته وشريعته , ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء ; وتأمين الحق والعدل للناس جميعا ; وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت ; وتعمير الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله . .
وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها ; وخاس بعهده الذي عاهد الله عليه , ونقض بيعته التي بايع بها رسوله .
وكل أولئك في حاجة إلى التضحية والصبر والاحتمال ; وإلى الاستعلاء على فتنة الأموال والأولاد , وإلى التطلع إلى ما عند الله من الأجر العظيم , المدخر لعباده الأمناء على أماناته , الصابرين المؤثرين المضحين: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة , وأن الله عنده أجر عظيم) . .
إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية , بما يعلم خالقها من تركيبها الخفي , وبما يطلع منها على الظاهر والباطن , وعلى المنحنيات والدروب والمسالك !
وهو - سبحانه - يعلم مواطن الضعف في هذه الكينونة . ويعلم أن الحرص على الأموال وعلى الأولاد من أعمق مواطن الضعف فيها . . ومن هنا ينبهها إلى حقيقة هبة الأموال والأولاد . . لقد وهبها الله للناس ليبلوهم بها ويفتنهم فيها . فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء ; ليرى الله فيها صنيع العبد وتصرفه . . أيشكر عليها ويؤدي حق النعمة فيها ? أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها ?: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) . . فالفتنة لا تكون بالشدة وبالحرمان وحدهما . . إنها كذلك تكون بالرخاء وبالعطاء أيضا ! ومن الرخاء العطاء هذه الأموال والأولاد
هذا هو التنبيه الأول: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) . .
فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار , كان ذلك عونا له على الحذر واليقظة والاحتياط ; أن يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة .
ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض . . فقد يضعف عن الأداء - بعد الانتباه - لثقل التضحية وضخامة التكليف ; وبخاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد ! إنما يلوّح له بما هو خير وأبقى , ليستعين به على الفتنة ويتقوى: (وأن الله عنده أجر عظيم) . .
إنه - سبحانه - هو الذي وهب الأموال والأولاد . . وعنده وراءهما أجر عظيم لمن يستعلي على فتنة الأموال والأولاد , فلا يقعد أحد إذن عن تكاليف الأمانة وتضحيات الجهاد . . وهذا هو العون والمدد للإنسان الضعيف , الذي يعلم خالقه مواطن الضعف فيه: (وخلق الإنسان ضعيفاً) . .
إنه منهج متكامل في الاعتقاد والتصور , والتربية والتوجيه , والفرض والتكليف . منهج الله الذي يعلم ; لأنه هو الذي خلق:(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ?) .