النداء العشرون : تحريم أكل أموال الناس بالباطل
النداء العشرون : تحريم أكل أموال الناس بالباطل
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) } سورة النساء
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى النَّاسَ عَنْ أنْ يَأكُلَ بَعْضَهُمْ مَالَ بَعْضٍ بِالبَاطِلِ ، أيْ أنْ يَأخُذَهُ بِطَرِيقٍ غَيْرِ شَرْعيِّ : كَالقِمَارِ وَالرِّبَا وَالحِيَلِ وَغَيْرِها . . وَإنْ ظَهَرَتْ فِي قَالِبِ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ، مِمّا يَعْلَمُ اللهُ أنَّ مَتَعَاطِيهَا إنَّمَا يُرِيدُ الحِيلَةَ لأكْلِ الرِّبا . فَاللهُ تَعَالَى يُحَرِّمُ عَلى النَّاسَ تَعَاطِي الأَسْبَابِ المُحَرَّمَةِ فِي اكْتِسَابِ الأَمْوَالِ ، وَاسْتَثْنَى مِنَ التَّحْرِيمِ المُتَاجَرَةَ المَشْرُوعَةِ التِي تَتِمُّ عَنْ تَرَاضٍ بَينَ البَائِعِ وَالمُشْتَرِي ، فَسَمَحَ اللهُ لِلمُؤْمِنِينَ بِتَعَاطِيهَا ، وَالتَّسَبُّبِ فِي كَسْبِ الأَمْوَالِ بِهَا . وَيَنْهَى اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَنْ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ بِارْتِكَابِ المُحَرَّمَاتِ ، وَأكْلِ الأَمْوَالِ بِالبَاطِلِ ، فَإنَّ اللهَ كَانَ رَحِيماً بِهِمْ فِيمَا أمَرَهُمْ بِهِ ، وَنَهَاهُمْ عَنْهُ ، لأنَّ فِيهِ صَلاَحَهُمْ .
وَهذِهِ الآيَةُ تَشْمَلُ أَيْضاً مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ قَتْلاً حَقِيقاً وَأَعْدَمَها الحَيَاةَ بِحَديدٍ أَوْ بِسُمٍّ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَهُ . وَجَعَلَ اللهُ جِنَايَةَ الإِنسَانِ عَلى غَيْرِهِ جِنَايَةً عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى البَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ .
وَمَنْ تَعَاطَى مَا نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ مُعْتَدِياً فِيهِ عَلَى الحَقِّ ، وَظَالِماً فِي تَعَاطِيهِ ، وَعَارِفاً بَتَحْرِيمِهِ ، وَمُتَجَاسِراً عَلَى انْتِهَاكِهِ ، فَإنَّ اللهَ سَوْفَ يُعَذِّبُهُ فِي نَارِ جَهَّنَم ، وَذَلِكَ سَهْلٌ يَسِيرٌ عَليهِ .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } .
مما يوحي بأنها عملية تطهير لبقايا رواسب الحياة الجاهلية في المجتمع الإسلامي؛ واستجاشة ضمائر المسلمين بهذا النداء : { يا أيها الذين آمنوا } . . واستحياء مقتضيات الإيمان . مقتضيات هذه الصفة التي يناديهم الله بها ، لينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل .
وأكل الأموال بالباطل يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله ، أو نهى عنها ، ومنها الغش والرشوة والقمار واحتكار الضروريات لإغلائها ، وجميع أنواع البيوع المحرمة - والربا في مقدمتها - ولا نستطيع أن نجزم إن كان هذا النص قد نزل بعد تحريم الربا أو قبله؛ فإن كان قد نزل قبله ، فقد كان تمهيداً للنهي عنه . فالربا أشد الوسائل أكلاً للأموال بالباطل . وإن كان قد نزل بعده ، فهو يشمله فيما يشمل من ألوان أكل أموال الناس بالباطل .
واستثنى العمليات التجارية التي تتم عن تراض بين البائع والشاري : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } . .
وهو استثناء منقطع . . تأويله : ولكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم فليست داخلة في النص السابق . . ولكن مجيئها هكذا في السياق القرآني ، يوحي بنوع من الملابسة بينها وبين صور التعامل الأخرى ، التي توصف بأنها أكل لأموال الناس بالباطل . . وندرك هذه الملابسة إذا استصحبنا ما ورد في آيات النهي عن الربا - في سورة البقرة - من قول المرابين في وجه تحريم الربا : { إنما البيع مثل الربا } ورد الله عليهم في الآية نفسها : { وأحل الله البيع وحرم الربا } . فقد كان المرابون يغالطون؛ وهم يدافعون عن نظامهم الاقتصادي الملعون . فيقولون : إن البيع - وهو التجارة - تنشأ عنها زيادة في الأموال وربح . فهو - من ثم - مثل الربا . فلا معنى لإحلال البيع وتحريم الربا!
والفرق بعيد بين طبيعة العمليات التجارية والعمليات الربوية أولاً ، وبين الخدمات التي تؤديها التجارة للصناعة وللجماهير؛ والبلاء الذي يصبه الربا على التجارة وعلى الجماهير .
فالتجارة وسيط نافع بين الصناعة والمستهلك؛ تقوم بترويج البضاعة وتسويقها؛ ومن ثم تحسينها وتيسير الحصول عليها معاً .
وهي خدمة للطرفين ، وانتفاع عن طريق هذه الخدمة . انتفاع يعتمد كذلك على المهارة والجهد؛ ويتعرض في الوقت ذاته للربح والخسارة . .
والربا على الضد من هذا كله . يثقل الصناعة بالفوائد الربوية التي تضاف إلى أصل التكاليف ويثقل التجارة والمستهلك بأداء هذه الفوائد التي يفرضها على الصناعة . وهو في الوقت ذاته - كما تجلى ذلك في النظام الرأسمالي عندما بلغ أوجه - يوجه الصناعة والاستثمار كله وجهة لا مراعاة فيها لصالح الصناعة ولا لصالح الجماهير المستهلكة؛ وإنما الهدف الأول فيها زيادة الربح للوفاء بفوائد القروض الصناعية . ولو استهلكت الجماهير مواد الترف ولم تجد الضروريات! ولو كان الاستثمار في أحط المشروعات المثيرة للغرائز ، المحطمة للكيان الإنساني . . وفوق كل شيء . . هذا الربح الدائم لرأس المال؛ وعدم مشاركته في نوبات الخسارة - كالتجارة - وقلة اعتماده على الجهد البشري ، الذي يبذل حقيقة في التجارة . . إلى آخر قائمة الاتهام السوداء التي تحيط بعنق النظام الربوي؛ وتقتضي الحكم عليه بالإعدام؛ كما حكم عليه الإسلام!
فهذه الملابسة بين الربا والتجارة؛ هي التي لعلها جعلت هذا الاستدراك - { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } يجيء عقب النهي عن أكل الأموال بالباطل . وإن كان استثناء منقطعاً كما يقول النحويون!
{ ولا تقتلوا أنفسكم . إن الله كان بكم رحيماً } . .
تعقيب يجيء بعد النهي عن أكل الأموال بالباطل؛ فيوحي بالآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة الجماعة؛ إنها عملية قتل . . يريد الله أن يرحم الذين آمنوا منها ، حين ينهاهم عنها!
وإنها لكذلك . فما تروج وسائل أكل الأموال بالباطل في جماعة : بالربا . والغش . والقمار . والاحتكار . والتدليس . والاختلاس . والاحتيال . والرشوة . والسرقة . وبيع ما ليس يباع : كالعرض . والذمة . والضمير . والخلق . والدين! - مما تعج به الجاهليات القديمة والحديثة سواء - ما تروج هذه الوسائل في جماعة ، إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها ، وتتردى في هاوية الدمار!
والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة ، المردية للنفوس؛ وهذا طرف من إرادة التخفيف عنهم؛ ومن تدارك ضعفهم الإنساني ، الذي يرديهم حين يتخلون عن توجيه الله ، إلى توجيه الذين يريدون لهم أن يتبعوا الشهوات!
ويلي ذلك التهديد بعذاب الآخرة ، تهديد الذين يأكلون الأموال بينهم بالباطل ، معتدين ظالمين . تهديدهم بعذاب الآخرة؛ بعد تحذيرهم من مقتلة الحياة الدنيا ودمارها . الآكل فيهم والمأكول؛ فالجماعة كلها متضامنة في التبعة؛ ومتى تركت الأوضاع المعتدية الظالمة ، التي تؤكل فيها الأموال بالباطل تروج فيها فقد حقت عليها كلمة الله في الدنيا والآخرة : { ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً ، فسوف نصليه ناراً ، وكان ذلك على الله يسيراً } .
وهكذا يأخذ المنهج الإسلامي على النفس أقطارها - في الدنيا والآخرة - وهو يشرع لها ويوجهها؛ ويقيم من النفس حارساً حذراً يقظاً على تلبية التوجيه ، وتنفيذ التشريع؛ ويقيم من الجماعة بعضها على بعض رقيباً لأنها كلها مسؤولة؛ وكلها نصيبها المقتلة والدمار في الدنيا ، وكلها تحاسب في الآخرة على إهمالها وترك الأوضاع الباطلة تعيش فيها .
. { وكان ذلك على الله يسيراً } فما يمنع منه مانع ، ولا يحول دونه حائل ، ولا يتخلف ، متى وجدت أسبابه عن الوقوع!