الجمال جوهر أصيل في الدين
فالدعوى التي بُني عليها غرض هذا الكتاب إذن؛ هي تقرير حقيقتين في الإسلام.
الأولى: أن الجمال جوهر أصيل في الدين،
تفيض أنواره من كل حقائقه الإيمانية والتشريعية؛ ولذلك فإن خطاب الوحي قد قام – فيما قام عليه – على وضع مقاييس الجمال، وبيان المعالم الكلية لمنهاج التجمل بالدين.
والثانية: أن تجميل التدين وتحسينه؛ حتى يكون غاية في الحسن والجمال؛ هو قصد مبدئي أصيل من الدين.
وإذا كان (الدين) هو نصوص القرآن والسنة الصحيحة – وهي كلها بحمد الله جميلة – فإن (التدين) هو كسب الإنسان، وسعيه؛ لتمثل قيم الدين في نفسه ومجتمعه.
إلا أن الغالب في لفظ (الدين) أن يرد بمعنى (التدين)، على سبيل الترادف، سواء على مستوى نصوص الشرع، أو على مستوى نصوص اللغة. ففي معجم مقاييس اللغة لابن فارس: (الدال والياء والنون: أصل واحد. إليه يرجع فروعه كلها. وهو جنس من الانقياد والذل. فالدين: طاعة، يقال: دان له يدين دِينا، إذا أصحَبَ وانقاد، وطاعَ. وقوم دِينٌ، أي: مطيعون منقادون. قال الشاعر:
"وكان الناس – إلا نحن – دينا").
فالدين في هذا السياق هو التدين عينه.
أما في الاستعمال الشرعي، فالدين يرد بمعنى الإسلام نفسه، أعني: الاسم العَلَم على دين الله الحق. ويرد بمعنى التدين. ولا يميز بينهما إلا السياق. فالأول
هو قول الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}
(آل عمران:19)
، وقوله سبحانه: {وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً}
(المائدة: 3)،
وكذا قوله عز وجل: {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ}
(النساء: 46).
وأما الثاني أي حيث يرادف الدين التدين،
فهو كقوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}
(الأعراف: 29).
فالسياق هنا دال على أن المراد من (الدين)، هو ما يضمره الإنسان في قلبه من اعتقاد، وما يمارسه من عمل: وهو التدين نفسه؛ ولذلك تعلق به الإخلاص، وإنما هذا شعور بشري. وقد تكرر هذا في القرآن كثيراً.
ولعل ورودهما مترادفين في الحديث النبوي أكثر. وذلك نحو حديث:
(تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها. فاظفر بذات الدين تربت يداك!)
فواضح أن المراد بــ(الدين) هنا هو عملها الديني، أي التدين، لا نصوص الشرع، ومثل هذا قوله للمسافر:
(أستودع الله دينَك، وأمانتك، وخواتيمَ عملك)
.وكذا قوله: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام).
وكان أغلب استعمال العلماء قديماً لمعنى التدين، إنما هو بلفظ (الدين) لا (التدين). وذلك نحو قول علماء الجرح والتعديل: (لين الدين، أو في دينه لين) لمن كان ضعيف التدين. ولم يرد لفظ (التدين) في القرآن قط! حتى إنه لما أراد الله عز وجل أن يأمر بحسن التدين
قال سبحانه: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ }
[الشورى: 13]
فقوله:
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ)
أي من نصوص الدين، ولكن قوله بَعْدُ:
{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ}
هوبمعنى التدين. فــ(إقامة الدين) كما دل عليه السياق، هي تطبيق نصوص الدين. والتطبيق: هو التدين.
ولفظ (التدين) فصيح في العربية، وإن لم يجر استعماله لدى الأقدمين كثيرا. وذلك أنه (يقال: دَان بكذا دِيَانَةً، وتَدَين به فهو دَيِّن ومُتَدِّينٌ (..) والدين: الإسلام، وقد دِنتُ به (..) والدين: ما يَتَدَيَّنُ به الرجل). وإنما شاع استعمال لفظ (التدين) في العصر الحاضر؛ نظراً لما عرفه الناس من انسلخ عن الالتزام بالدين، إذ قد يكون المسلم متدينا وقد يكون غير متدين، دون أن يلزم عن ذلك الخروج الكامل عن الدين. ولم يكن الناس قبل في حاجة إلى هذا التمييز في القديم إلا قليلاً. وأيضاً فإن خلط الدين كنصوص، في أذهان الكثير من الناس، بالدين كممارسة بشرية؛ أدى إلى استحباب بعض العلماء الفصل بين المعنيين بتخصيص (الدين) – في الفكر الإسلامي الحديث – للدلالة على مجموع نصوص الوحي من الكتاب والسنة وتخصيص (التدين) كما هو في اللغة بالدلالة على التطبيق البشري للدين.
إلا أن استعمالنا نحن ههنا – في هذا الكتاب – لمصطلح (الدين) إنما هو واقع بدلالته القرآنية الأصلية، أي الجامعة بين القصدين: قصد نصوص الوحي وقصد التطبيق البشري لها. وذلك لأن (التدين) لا يكون جميلاً إلا بمقدار مقاربته للمقاييس الجمالية للدين! فجمالية الدين هي التي تفيض بأنوارها على جمالية التدين، لا العكس. ومن هنا كان حديثنا في هذا الكتاب مبنياً في القصد على بيان (جمالية الدين) بالأصالة، وما ينبغي أن ينتج من جمال في التدين بالتبع. فاستعملنا لمصطلح (الدين) كان باعتباره مصطلحاً مركزياً كلياً – كما هو في القرآن – للدلالة على هذا الغرض الجامع. كما أننا استعملنا مصطلح (التدين) أحياناً؛ لإفراد السلوك البشري بالقصد، إذا دعت الحاجة السياقية لذلك. إذ أن (التدين) – من حيث هو تجربة بشرية – قد لا يكون جميلاً بالضرورة! لأنه ببساطة كسب الإنسان! والإنسان مهيأ للخير والشر معاً، ولو جاء ذلك في ثوب الدين وأشكاله! وهنا مكمن الخطر! فالدين ككسب بشري – من حيث الأصل – الغالب فيه أن يكون جميلاً، نعم؛ لأن الدين كنصوص إنما نزل من أجل هذه الغاية: تزيين بني آدم بعبادة الله تعالى؛ ومن هنا ظن بعض الناس أن كل ما ينسب من قول أو فعل للمتدينين إنما هو شيء جميل، كما أنه قد يظن بعض هؤلاء في أنفسهم ذلك! وقد لا يكون في واقع الأمر كذلك؛ لاحتمال الخطأ والزلل، والانحراف عن الدين بقصد أو بغير قصد. بل قد يكون – إذا شط به الانحراق – إلى القبح أقرب!