المشهد الأول: في جمالية التوبة


الدكتور/ فريد الأنصاري

 

يقول ابن القيم رحمه الله: (منزلة التوبة أو المنازل، وأوسطها وآخرها. فلا يفارقه العبد السالك، ولا يزال فيه إلى الممات. وإن ارتحل إلى منازل آخر ارتجل به، واستصحبه معه ونزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته). وهذا تأصيل حسن وجب البدء به. ومِنْ قَبْلِهِ قَسَّم ذو النون المصري التوبة قسمين، فجعلها توبتين: (توبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من الغفلة!) والقصد بالعوام: المريدون المبتدئون، وأما الخواص – كما جرى عليه اصطلاح القوم – فهم: الذيم قطعوا مراحل متقدمة في الطريق، واكتسبوا معرفتها وخبروا مسالكها. وهذا كلام جميل أيضا.

 

إن التوبة يا سادتي هي شلال الجمال المتدفق من كوثر الرحمن، الفواح بأريج عطاء الله وكرمه.. التوبة هي وضوء النفس وطهورها. تماماً كما أن للأعضاء البدنية وضوءها وطهورها.. فأن تتوب إلى الله يعني أنك تتطهر، وأنك تجرد نفسك من خبائثها تجريداً. إن التوبة تجمع كل منازل (التهذيب والتصفية)، وترتقي بصاحبها عبر الأمواج الدافقة نحو السماء. إنها جمال الطهور المفضي إلى بحر المحبة الإلهي!

قال جل جماله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}

(البقرة:222).

وبذلك كان يدعو سيد المحبين محمد صلى الله عليه وسلم إثر الوضوء: (اللهم أجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) فقرن بذلك بين طهورين في سياق واحد: طهور النفس، وطهور البدن.. فعليك السلام يا محمد عليك السلام!

 

التوبة: هي أول باب يلجه السالك في مسرى المحبة الدائم الأخضرار..

والتوبة بهذا المعنى توبتان:

 

توبة العبد الآبق الشارد عن باب الله، وتوبة العبد السالك إلى الله. قال أبو بكر الكلاباذي: (سئل الحسين المغازلي عن التوبة، فقال: تسألني عن توبة الإنابة أو توبة الاستجابة؟ فقال السائل: ما توبة الإنابة؟ قال: أن تخاف من الله من أجل قدرته عليك. قال: فما توبة الاستجابة؟ قال: أن تستحي من الله لقربه منك!)

 

فأما الأولى فلا تكون إلا بعد مقام اليقظة، يقظة الإنسان من غفلته، واكتشافه أنه غارق في مستنقع الشهوات والمعاصي؛ فيشتاق إلى لحظة سعيدة مع الطاهرين، بعدما ضاقت أنفاسه بالروائح النتنة، المنبعثة من جيفة العلق المسنون! فيقرر بدء المصالحة مع الله، وذلك أول الدخول إلى مقام (الإرادة)، مع قافلة الصالحين، هارباً من رفقته الأولى مع الأشرار الغفلة:

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}

(الكهف: 28).

سواء كان ذلك توبة من كفر صريح، أو من معصية دائمة. فهي في جميع هذه لأحوال خروج من فوضى الشرود ودخول إلى نظام المدار، حيث يستقيم العبد في السير إلى ربه. وتلك هي التوبة النصوح:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً}

(التحريم: 8).

أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قُلْ آمنت بالله ثم استقم!).

 

والثانية توبة العبد المستقيم السالك إلى الله، إذ يصيبه الشيطان في طريقه ببعض الرشقات والنخسات؛ فيصيبه القبض بعد البسط؛ وينتبه إلى ما به من أذى؛ فيجأر فاراً إلى الله. وهي المشار إليها في قول الله تعالى يصف عباده السالكين:

{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}

(التوبة: 112).

 

إنها صورة ذات إشعاع بهي، ترى فيها قافلة المحبين تقطع المسافات إلى الله توبةً، وعبادة، وحمداً، وسياحة، وركوعاً، وسجوداً.. آية تعبر بتصويرها الجميل هذا عن حركة السير! ألا ترى أن الركوع والسجود إنما هما فعل واحد هو: الصلاة؟ لكن الله تعالى ذكر كلا منهما على حدة؛ لترى العبد في حركة دائمة بين ركوع وسجود! فيوحي لك ذلك بالاستمرا والتجدد في الأفعال، المستفادة مما سبق من عبارات:

(التائبون العابدون الحامدون السائحون)

رغم أن التعبير باسم الفاعل (الفاعلون) دال بذاته؛ ولكن تتأكد الصورة المتحركة السائرة باستمرار إلى درجة التشخص الحي! تماماً

كما في قوله تعالى: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}

(الفتح: 29).

(تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً)

لا يفترون، يحدوهم الشوق، في حركة سائرة أبداً إلى الله؛ إلى أن يلقوه على المحبة والرضى!

 

فهم هنا إذن المؤمنون (التائبون) باستمرار.. المجددون لتوبتهم بلا انقطاع. قال عليه الصلاة والسلام: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها..!).

 

وابن آدم لا بد أن يذنب؛ فمن هنا كان هو ابن آدم،

قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}

(طه: 121-122)،

وقال سبحانه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}

(البقرة: 37).

ثم تلك هي إرادة الله الجميلة في خلقه، وكرمه الفياض من أنوار أسمائه الحسنى.

جاء في الحديث النبوي: (ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم!).

 

والتوبة بجميع معانيها من أبهى منازل العبادة في الإسلام.. إنها خضرة الأمل الممتدة في أفق السير إلى الله، المتصلة بمنازل الرجاء، والمحبة، والشوق، والأنس بالله.. ظلال من النور البهي تظلل العبد أبداً وهو يتنقل من منزل إلى منزل، ويسبح من فلك إلى فلك؛ وهو يمضي صعداً في اتجاه السماء، عبر مدارج المحبين!

 

إنك أيها العبد إذ تسير إلى ربك تشعر أن لك رباً تواباً رحيماً.. بقلبك متى عدت، وكيف عدت!.. المهم هو أن تعود..!

 

إنه الله.. هل تعرفه؟..

 

مقام التوبة يتيح لك أن تعرفه! معرفة الله قربى، واقتراب.. ومن اقترب من الجمال أحبه! والحب غايته الوصال، ومن وصله الحبيب كان حاله أنساً وسرورا! فأني له إذن أن يقنط أو ييأس؟ هنا في ظلال الله لا قنوط ولا يأس.. وإنما أبواب السماء تنهمر بواردات من النور، ذات رواء علوي، يملأ الوجدان بأنداء المحبة.. قال عز وجل لعباده الغارقين في أوحال الذنوب:

{قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}

(الزمر:53).

إنها لتعجز الكلمات والعبارات البشرية، عن وصف ما ينفخ عنه هذا الباب السماوي الفسيح، من خيرات ورحمات! (إن الله يغفر الذنوب جميعاً).. فما أجل جمالك يا الله! ومال أندى عطاءك الكريم!

 

هذا شلال البركات يتفجر من عند الرحمن.. فيا عبد!

{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}

(ص: 42).

 

الكل إذن مقبول عند الله، مأذون له في الدخول إلى حضرته تعالى، موعود بموعد للوصال.. موعد غير بعيد ولا عسير، لا تحجبه الوسائط، ولا تثقله البروتوكولات!

{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}

(النساء: 110).

وإنما أنت.. أنت أيها العبد المحب عليك أن تسأل.. أن تسأل فقط!

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}

(التوبة: 104)..

ذلكم الله الذي يعطي قبل أن تُسْأَلَ، فكيف إذا سئل؟

 

إن التوبة حسنة بنفسها عظيمة! وذلك لأنها تجمع خصالاً تعبدية شتى:

 

فالتوبة توحيد: ذلك أن العبد العائد إلى الله تائباً، هو عائد إلى الله أولاً، ثم هو عائد إلى الله وحده. وفي ذلك ما فيه من اعتقاد أن الله هو وحده سبحانه التواب الرحيم؛ إذ لا ملجأ منه إلا إليه. وذلك توحيده سبحانه في إلهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته تعالى؛ ولذلك كثيراً ما ذكرت التوبة والاستغفار في سياق التوحيد.

قال تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}

(الرعد: 30)

. وقد سبق أن التوبة منزل والاستغفار بابها. ومن هنا علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أرَقَّ عبارات الاستغفار. فكان أجمع في هذا ما سماه بــ(سيد الاستغفار)، وهو عبارات في الإقرار الوجداني العميق بتوحيد الإلهية، والاعتراف لله سبحانه بكمال إنعامه وإفصاله، والتعبير عن مواجيد العبودية لجلاله تعالى.

قال عليه الصلاة والسلام: (سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت. خلقتني وأنا عبدك على عهدك ووعدك ما استطعت. أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي. وأبوء بذنبي؛ فاغفر لي.. فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت!)

 

كلمات وجيزات عظيمات في تمجيد الله في عليائه والاعتراف بآلائه. إلها واحداً لا شريك له، سواء في واقع الأمر، أو في وجدان القلب. منه وحده الغفران، لأنه تعالى المالك وحده للضر والنفع. فالعبد مدين لله، غارق في فقره إليه تعالى، وحاجته المطلقة إلى إفضاله وإنعامه، في كل لحظة وحين. مدرك لعجزه عن القيام إلا بالله، ويأسه من النجاة إلا به. وها الذنب يحيطه بالرهب من كل جانب! فكان هذا الاستغفار الجميل تعبيراً عن وجدان القلب الهارب إلى ربه، الفار من ذاته الضيقة إلى ذات الله الواسعة! وكان إذن أن فاضت الأحاسيس بأرقى معاني التوحيد والإخلاص لله. وأشد ما يكون العبد موحَّداً، ومخلصاً، هو في حال الحاجة الجارقة! فكان (سيد الاستغفار) بلسماً للعابدين. ومن هنا كان استغفار يونس في بطن الحوت، وهو يضرب به في مجاهيل المحيطات وظلماتها؛ ما حكاه الله تعالى من قوله:

{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ}

(الأنبياء: 87).

 

والتوبة استغفار: إذ هي منزل، أو مقام، والاستغفار بابها، أو – إن شئت – فمفتاحها!

ولذلك قال سبحانه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}

(هود: 3).

ومن هنا كادا يكونان مترادفين في كثير من السياقات القرآنية والحديثية.

قال عز وجل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}

(طه: 82).

وقال عليه الصلاة والسلام: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه! فإني أتوب في اليوم مائة مرة!)

وقال أيضا: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة).

 

والتوبة تسبيح: لأنك إذ تستغفر الله وتتوب إليه، تفرده في عليائه موحدا لذاته وصفاته – كما ذكرنا – وذلك في حد ذاته تتريه له سبحانه أن يشاركه أحد في صفة، أو أمر! فاستقرار هذا المعنى في نفس العبد الفقير، العائد إلى ربه عود ذل وافتقار، تتريه لله في كماله، وتسبيح له في عليائه. ولذلك كان استغفار يونس المذكور آنفاً تتوسطه عبارة التسبيح الصريح: "سبحانك"! إذ الشعور الوجداني الموحد لله تأليها إنما هو خضوع لله؛ اعترافاً بكماله، وهو غاية التسبيح والتتريه.

ومن هنا قال سبحانه: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}

(النصر:3).

 

والتوبة دعاء: لأن بابها الاستغفار كما سلف. ولذلك فهي دعاء بما للكلمة من معنى. دعاء فيه خصائص العبودية ما قد لا تجده في غيره من العبادات! إذ التوبة إقرار بالذنب أولاً، ثم شعور بالذلة، والفقر إلى الله. وذلك أساس من أسس التعبد في الإسلام. وشروط التوبة الثلاثة دالة على هذا المعنى الوجداني العميق. وهي الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على عدم العودة إليها، وتلك كلها هي شروط الرحلة إلى الله. فالندم على فعل الشر، هذا الإحساس الوجداني الجميل، الذي يدرك العبد من خلاله – إذ تذوق مرارة التيه وشقاء الشرود – ما للعودة من حلاوة، وما للأوبة من أثر في عمران القلب بالسلام. ولذلك يبقى الندم حافزاً قوياً على الدخول إلى مقام (الإرادة)؛ فيسلك المريد إلى ربه سبيل الرشاد والمحبة، ومصراً على التزام تعاليم الهدى ولو حفت بالمكاره! لأنه يدرك ما للشرود والتيه من خطر على نفس، وشقاء في المعيشة!

 

ويكفي التوبة رفعة أن تكون دعاء؛ إذ (الدعاء هو العبادة) كما في الحديث. بل لك أن تقول: "التوبة هي العبادة"! ما دامت التوبة واردة في الحديث مرادفة للدعاء والرجاء. قال عليه الصلاة والسلام حاكيا عن ربه تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي!) فقوله هنا: "دعوتني" هو بمعنى استغفرتني؛ لأن جوابه كان هو قوله: "غفرت لك".

 

وتاج جمال التوبة – بعد ذلك – أنها معرفة بالله: معرفة قائمة على نور المشاهدة، وألطاف التجلي! وللحديث القدسي – المذكور قبل قليل – تتمةٌ فيها من الجمال الرباني ما تعجزه العقول عن الإحاطة به تصوراً، ومن العطاء الرحماني ما تفنى القلوب دون إحصائه تشكر..!

 

قال: (يا ابن آدم! ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي! يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبُك عَنَانَ السماء، ثم استغفرتني؛ غفرت لك! يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لأتيتك بقُرابها مغفرة!).. وللنداء بــ (يا ابن آدم!) في سياق التوبة تذكير بالخطيئة الأولى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (طه: 121-122). وفي النداء بهذا اللفظ إشارة لطيفة إلى طبيعة الإنسان الخطاءة والتوابة في الوقت نفسه! والجميل أن في هذا السياق يبرق الإذن بولوج باب معرفة الله! سياحة في فضاء كرمه الذي لا يجد، ومنه العظيم الذي لا ينتهي.. ثم تدخل!

وتتدفق غدران الغفران!

 

أن تبلغ ذنوب ابن آدم عَنان السماء.. أن يأتي ربَّه بقُراب الأرض خطايا.. وليس بين يديه من أعذار ولكنه فقط يأتي، يطرق الباب؛ يسأل، يدعو.. ثم كأن شيئا لم يكن، بل كأنك إنما كنت تجمع الحسنات، لا السيئات! ركام النتانة والجيف يتحول في طرفة عين مسكاً وعنبراً!

{إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}

(الفرقان: 70).

ذلك؛ لأنه هو الله!

 

فهل ذقت ذلك حقاً؟ إذن أنت من العارفين!

 

إن الله على المؤمن السالك أن يعرف أن الله يعطي بلا حساب! عندما تذوق ذلك ذوقاً تجد له في قلبك ظلاً جميلاً، يمتد في الآفاق إلى ما لا نهاية! ولن تذوق حتى تدعو وتدعو..! تستغفرالله، تطرق باب كرمه المفتوح أبداً! ثم...ثم تدخل؛ لتشاهد كيف أنه سبحانه يغفر الذنوب جميعا! ترى شلال الرحمة تنهمر أنواره عليك واردات من الفرح الإلهي! وتسكن لجمال المحبة الذي لا يوصف! هذا نص النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا،

قال: (لله أشد فرحا بتوبة عبده – حين يتوب إليه – من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته؛ فبينما هو كذلك إذ بها قائمة عنده! فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح!)

 

عندما تصل ربك فيصلك، وتحبه فيحبك، وتقترب منه فيقربك! وترى ذلك حقاً وتشاهد جماله ذوقاً ووجداناً؛ تكون قد عرفت الله، وعرفت كرمه العظيم. لكن أنت؟.. هل دخلت؟ هل طرقت الباب؟ إن الخطوة الأولى هي منك.. وإنما عليك أن تأتي وتسأل! قال عز وجل في الحديث القدسي: (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جيمعاً؛ فاستغفروني أغفر لكم). إنه وعد الله ذي الجمال.. ومن أحصى على الله إخلافاً؟ ألا سبحانه وتعالى من سيد كريم، ورَبٍّ رحيم، ومَلِكٍ بَرِّ حليم.

{لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}

(الروم: 5).

 

ومن مدارج التوبة يمارس العبد أول محاولة الطيران!.. عندما تشرع في تحسي كأس الاستغفار، تتحرك الطائرة على مدرجات المطار، رويداً رويداً، ثم تسرع مندفعة إلى الأمام بقوة عجيبة؛ حتى إذا كانت على درجة عالية من السرعة بدأت حركات التحليق! وتطير الطائرة محلقة في الفضاء، تخرق طبقات الجو منازل وطبقات!

 

أن تتوب إلى الله يعني أنك انطلقت عبر مدارج الإقلاع؛ حتى إذا بدأت مقدمة الطائرة في الارتفاع في الجو كانت لك منزلة أخرى! إنها منزلة الخوف والرجاء.

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ المشهد الأول: في جمالية التوبة

  • الإشراق الرابع: في جمالية منازل العبادة

    الشيخ / فريد الأنصاري

    تمهيد في معنى (المنازل) و (الأحوال). من جماليات الدين أن العبد السالك إلى ربه متنقل في عبادته بين (منازل)، أو

    05/08/2018 1857
  • في جمالية العمر

    الشيخ / فريد الأنصاري

    الإشراق الثاني: في جمالية عقيدة اليوم الآخر المشهد الأول: في جمالية العمر من أهم مصادر الجمال في الإسلام

    19/07/2018 2225
  • الإشراق الثالث: في جمالية العباد

    الشيخ/ فريد الأنصاري

    المشهد الأول: في جمالية (الانتساب) التعبدي  العبادة: هي عنوان الجمال في الإسلام، وشعار المحبة. وإذا أحب الله

    05/08/2018 1775
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day