المشهد الثالث: في جمالية المحبة
منزلة المحبة هي أشرف منازل العبودية, وأصدقها ترجمة لشهادة: أن (لا إله إلا الله)، ذلك أنها ترفع العبد إلى شهود العبودية. أي أن العبد يدخل باب الأنس؛ فيجد لأعماله الصالحة لذة السير، ومتعة الركوع والسجود. حيث يشهد خضوعه الجميل لله وانقياده المتدفقَ لأمره ونهيه، طاعة يغمرها الشوق إلى رضى المحبوب، شوقٌ يَسْلُكُ العبد في قافلة المحبين، الضاربة في تاريخ الدين، من يوم أن أشرقت أنوار النبوة على العالم إلى أن دخلت البشرية في ظلمات هذا العصر الرهيب! وهي ما تزال – رغم الفتن والمحن – تَجِدُّ السيرَ الحثيث إلى الله الواحد الأحد.
إن منزلة المحبة هي من الأهمية بمكان في تقرير حقيقة التدين في الإسلام؛ ذلك أنها – وهي أساس العقيدة الإسلامية، كما تبين في الإشراق الأول من هذا الكتاب – هي من المنازل التعبدية التي لم تعط لها المكانة اللائقة بها في تدين المسلمين اليوم، وبرامج تربيتهم؛ فكانت فيهم الآفات في الفهم والسلوك على السواء! ذلك أن من أضاعها فقد أضاع من الدين جوهره، ومن التقوى روحها.
المحبة يا سادتي هي استعداد القلب لاستقبال النورالإلهي، إذ القلب الصالح كالكأس، يعكس نور الرحمن! قال عليه الصلاة والسلام في حديث جميل: (إن الله تعالى آنية من أهل الأرض! وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين! وأحبها أرقها وألينها!) والناس في عكس أنواره العلوية، ومشاهدة تجلياته الحسنى، طبقات ومنازل شتى! والمعرفة بالله سيرلا ينقطع إلا بالموت الجميل، والانتقال إلى جواره الكريم، حيث موارد الأنس واليقين! وقد سبق لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلام لطيف في وَصْفٍ إشاريٍ لنور الله جل جلاله. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام! يخفض القِسْطَ ويرفعه إليه عملُ الليل قبل عمل النهار، وعملُ النهار قبل عَمَلِ الليل! حِجَابُهُ النور! لو كشفه لأحرقتْ سُبُحَاتُ وجْهِهِ ما انتهى إليه بصرهُ من خلقه!") والسبحات، جمع سُبْحَة: وهي ما يفيض عن الذات الجميلة من لآلئ النور، ونوابض الحسن، وأشعة الجمال. ومن تدبر أسماء الله الحسنى – في سيره وعبادته – وجدها نجوماً رحمانية في سماء المعرفة بالله، تشرق عليه في لحظات النجوى والصفاء الروحي، كالشموس والأقمار، وتفيض عليه – من نور الله – بأسباب الوصال، ومواجيد الجمال والجلال! فلا يملك القلب آنئذ إلا أن يلقي بمهجته في بحار المحبة.
إن منزلة المحبة لهي باب صحبة الملأ الأعلى في السماء، وعنوان القبول في الأرض! فيا لجمال الأنس، ويا لجلال القرب! قال عليه الصلاة والسلام: (إذ أحب الله العبد دعا جبريل، فقال: إني أحب فلاناً؛ فأحبه! فيحبه جبريل! ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه! فيحبه أهل السماء! ثم يوضع له القبول في الأرض!) ذلك هو الإسلام دين المحبة العليا.
خاتمة المشاهد .
وبعد فقد كانت تلك إشراقات.. حاولتُ خلالها أن أُذَكِّر بحقيقة من حقائق الدين الجوهرية، غطاها النسيان في زمننا هذا، زمن الهرج والمرج.. وشتى ضروب الصراع وردود الأفعال! وهي أن جمالية الدين راجعة إلى ما بُنِيَ عليه الإسلام عقيدة وشريعة – من معاني المحبة والخير للناس.. فيكون التدين الأجمل والأحسن، هو ذلك الذي يصدر عن قلب مشبوب بالشوق إلى الله
ولقد وددتُ لو بَقِيَتْ هذه المعاني في تعاملنا مع الدين صافيةً نقية، لا تتأثر سلباً بأوضاعنا السياسية والاجتماعية؛ فتؤثر على تصور الناس للدين نفسه؛ ويُطَنَّ به ما لا يليق به من صفات القبح والضلال! لقد كان الأليق بالمؤمن – بَلْهَ الدًّاعية – ألا يصبغ تدينه بما هو عليه شخصه من أوضاع نفسية واجتماعية وسياسية، ثم يظن أن الدين نفسه هو كذلك! فيجني على الدين وعلى نفسه وعلى الآخرين.