الحديث الثاني (حديث الاخلاص)
الحديث الثاني (حديث الاخلاص)
- قال النسائي رحمه الله: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ هِلَالٍ الْحِمْصِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ شَدَّادٍ أَبِي عَمَّارٍـ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه،
قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَالَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا شَيْءَ لَهُ" فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا شَيْءَ لَهُ". ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ".
الحكم على الحديث:
سنن النسائي (3140). وقال الألباني رحمه الله: إسناده حسن. الصحيحة (52).
أهمية الحديث
1- لما بدأنا بحديث النجاة كان لا بد أن يتلوه شرط قبول هذه الكلمة؛ وهو الإخلاص.
2- اختيار هذا المتن تحديداً لمعالجة اختلاط النية، فلا بد من تحرير النية لوجه الله وحده.
3- بيان أن الإخلاص ليس كلمة تقال، أو دعوة باللسان، وإنما هو في تحقيق المواقف.
فوائد الحديث
1- في قول الصحابي للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ؟) هذا الإشكال هو أكبر إشكال يعرض للسائرين إلى الله، ومن أجل ذلك اخترنا نص هذا الحديث في مسألة الإخلاص.
فالإشكال الأكبر أن تختلط النية، وأن يختلط القصد، وأن يكون السلوك على السالك لا له، فهذا إشكاله يريد الأجر والذكر، هذه مصيبة المصائب؛ أن يُصاب الإنسان باختلاط نية فيحبط عمله ويضل سعيه، وكثيراً ما يحدث هذا للسائر في قيامه لليل أو صيامه أو حفظه للقرآن أو صدقته أو حجه أو عمرته أو في نشاطه في الدعوة إلى الله، في كل هذا قد تختلط على العابد نيته في إرادة وجه الله مع إرادة شهوة أو حظ نفس أو وجه الناس، وهذا شر الناس ذو الوجهين نسأل الله العافية.
2- لعل أول ما يشدهُك - أخي الرباني - هو وجود النبي صلى الله عليه وسلم في وسط الصحابة؛ فكانوا يفزعون إليه عند كل نائبة، ويسألونه عند كل شبهة تعرض، ويسألون ويستفسرون منه عند كل عارض في اعتقاد أو عمل، فيجدون الإجابة الشافية والجواب الكافي والبلسم المداوي لقلوبهم.
3- مرة أخرى يشتد انبهاري وإعجابي وتعظيمي لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكما لم يستطع أبو ذر رضي الله عنه أن يؤثر عليه بتكرار: وإن زنى وإن سرق؟ فكذلك في هذا الحديث لم يستطع السائل أن يؤثر عليه بتكرار السؤال، بل ظلت حاسمة قاطعة كلمة: "لَا شَيْءَ لَهُ". فياليت كل مفت لا يتأثر بالإلحاح ولا بالضغط بل يثبت ولا يجامل ولا يحابي.
4- تكرار "خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ". تأكيد وجزم تام في المسألة بعد الإلحاح ثلاث مرات أن يكون خالصاً لم يقصد به شيء لغير وجه الله.
5- قضية القبول لا بد أن تنال منا الاهتمام الكافي الزائد، فليست القضية بكثرة العمل ولا بصورة العمل ولا بالشكليات والمظاهر، بل السر هو قبول العمل عند الله لكي ينال العبد ثواب هذا العمل كاملاً في الآخرة.
6- قضية التماس الذكر يعني أن يذكر عند الناس؛ يعني الثناء والمدح، هي الفتنة الكبرى لكل العاملين في الدعوة؛ طلب الشهرة وحب التصدر وحب المحمدة والثناء من الناس، هذه الفتنة التي أطاحت بكثير من الرؤوس، وتأمل حديث: "أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (1). فأولهم عالم آتاه الله العلم وعلم وتحدث الناس به، ومع ذلك فهو أول من تسعر بهم النار، فاحذر، الحذر الحذر من فتنة الظهور وحب الشهرة وحب المدح والثناء. قال الذهبي رحمه الله: الحظوة وبال على العالم، والسلامة في الخمول، فنسأل الله المسامحة (2).
7- الإخلاص ليس بالقضية الهامشية التي يمكن أن يُستغنى عنها، بل هي قضية محورية رئيسة؛ فهو شرط قبول الأعمال جميعها، صغيرها وكبيرها، فرضها ومستحبها، وكم من عمل كبير ذهب إلى الحبوط بسبب فقدان الإخلاص بشرطه؛ أن يكون خالصاً تماماً وابتغي به وجه الله، فلا بد من مناقشة النفس بصفة دائمة في الإخلاص والرياء.
8- الذي ينافي الإخلاص ويفسده هو الرياء، والرياء دقيق خفي، ويسيره شرك، وخطورته أن الإنسان قد يتلبس به وهو لا يشعر.
قال أحد السلف: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فكأنه ينبت على لون آخر.
وصلى رجل في الصف الأول عشرين سنة، ثم تأخر يوماً فصلى في الصف الآخر. فاعترته خجلة من الناس، فعلم أن عمله عشرين سنة مدخول.
- فلا بد من معرفة الإخلاص معرفة جيدة بعلم واسع.
- ومعرفة الرياء وأحواله معرفة جيدة وبصورة واضحة في الذهن.
- ثم متابعة النفس دوماً: هل أنا مخلص؟ هل انا مخلص؟
9- خفاء الأعمال وطاعات السر وخبيئات الطاعات أعون على الإخلاص؛ قال سفيان رحمه الله: كل شيء ظهر من عملي لا أعده. فقلوبنا أضعف من أن تخلص والناس ينظرون، فأكبر عون على الإخلاص إخفاء العمل.
10- هناك آفات كثيرة جداً تفسد الإخلاص مثل حب الظهور، وطلب الشهرة، والفرح بمدح الناس، والطمع فيما في أيدي الناس، والمسارعة في الشهوات، وحب الدنيا، والغفلة، وغير ذلك كثير، وكل منها يستتبع الآخر، خصوصاً إذا كان في العمل حظ للنفس أو شهوة خفية.
اللهم ارزقنا الإخلاص واجعلنا من أهله
اللهم اجعل عملنا كله صالحاً، واجعله لوجهك
خالصاً، ولا تجعل فيه لأحد غيرك شيئاً يا رحيم يا رحمن
المراجع
- أخرجه الترمذي (2382)، والنسائي في الكبرى (11824). وقال الألباني: صحيح. صحيح الترغيب والترهيب (22).
- ميزان الاعتدال 2/ 419.