الحديث الثاني عشر (حديث التشبث)
الحديث الثاني عشر (حديث التشبث)
- قال الإمام أحمد رحمه الله: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ مُعَاوِيَةَ يَعْنِي ابْنَ صَالِحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ، يَقُولُ جَاءَ أَعْرَابِيَّانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَمُرْنِي بِأَمْرٍ أَتَثَبَّتُ بِهِ. فَقَالَ: "لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ".
الحكم على الحديث:
المسند (17698). وقال الأرنؤوط رحمه الله: إسناده صحيح.
أهمية الحديث
1- فهم وعلم أن شرائع الإسلام كثيرة وعظيمة.
2- الإحاطة بأعمال الشريعة مطلوبة، والتميز مطلوب، والتميز مطلوب أيضاً.
3- التشبث النجاة؛ "عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ " (1).
فوائد الحديث
1- في قول الأعرابي: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي. دليل على أن شرائع الإسلام فعلا كثيرة وكثيرة جداً، وقد جعلها الله كذلك بفضله وبرحمته؛ لأنه سبحانه لما علم من عباده كثرة المال نوع لهم أنواع العبادات.
قال ابن القيم رحمه الله: مراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال وكلها طرق مرضاته، فهذه التي جعلها الله سبحانه لرحمته، وحكمته كثيرة متنوعة جداً؛ لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم، ولو جعلها نوعاً واحداً مع اختلاف الأذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكها إلا واحد بعد واحد، ولكن لما اختلفت الاستعدادات تنوعت الطرق ليسلك كل امرئ إلى ربه طريقاً يقتضيها استعداده وقوته وقبوله (2).
2- في سؤال الأعرابي عن عمل يتشبث به فقه عظيم للنجاة؛ أن يتشبث الإنسان بباب واحد يتميز فيه، ثم هو يضرب بسهم في العبادات الأخرى
3- في قوله: أتشبث. لفظة عظيمة تفيد أنه يعمل ولا يترك، بل يعض عليها بنواجذه فلا يتركها وإن تشبثت به الموانع والقواطع.
4- فالواجب على العبد الرباني أن يتعلم ذلك الهدي؛ وهو البحث عن عمل يتشبث به يناسب حاله لا يتركه ولا يمل منه بل يواظب عليه ويثبته حتى الممات.
5- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُ لِسَانُكَ". حسب حال الأعرابي وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم؛
ولذلك تعددت وصاياه صلى الله عليه وسلم لآخرين من الصحابة؛ فلأحدهم:
"اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ" (3).
ولآخر: "لَا تَغْضَبْ" (4). ولآخر: "لَا تَسُبَّنِّ شيئاً" (5). وهكذا لكل إنسان وصية مناسبة لحاله تناسب مقامه.
فالواجب على الرباني أن يبحث عن شيخ ذي بصيرة نافذة وعلى علم بحاله وقدراته يدله على ما يصلح له أن يتشبث به، أو هو يصدق مع الله ويسأل الله الهداية إلى ما يصلح أن يتشبث به والله يهديه ويدله ويعينه ويوفقه، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ولا حرج على فضل الله.
6- ذكر الله من أعظم الأعمال؛
قال تعالى:
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا ٱذْكُرُوا ٱللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}
[الأحزاب: 41].
وهذا أمر واضح صريح بكثرة ذكر الله الكثرة البالغة التي لا يحيطها عد ولا يشبع منها قلب، فهذا هو الذكر المطلق الذي أمر الله بكثرته لا محدوداً بوقت ولا كيفية ولا عدد ولا مكان ولا هيئة ولا زمان؛
قال الله تعالى:
{ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}
[آل عمران: 191].
7- ولا أجد لفضل الذكر أفضل من
حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
"أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟" قَالُوا: وذلك مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "ذِكْرُ اللَّهِ عز وجل" (6).
8- ولا شك أن الذكر هو أفضل الأعمال بهذا الحديث حتى أنه أفضل من الجهاد بظاهر الحديث، وهو لا يشكل علينا أبداً، وإن أشكل على الكثيرين.
9- الذكر باللسان من الطاعات السهلة الميسورة المقدورة لكل إنسان، أما كون أن يواطئ القلب اللسان، وأن يطمئن القلب بذكر الله، ويوجل عند ذكر الله، ويقشعر الجلد عند ذكر الله، ويُرطب اللسان بذكر الله فهذا عمل جليل مهيب له آداب ومقدمات وعلوم وأحوال وشروط.
10- ولا أقول أن أحوال الذكر هذه للخاصة، أو لخاصة الخاصة، بل هي عامة للمسلمين، مقدورة ومطاقة، لا أقول: إنها مستحيلة أو معجرة. بل أقول وبصدق فقط: إنها ليست بالسهلة الهينة، وإنما تحتاج إلى صبر ومعاناة وجلد ومحاولة أكثر من مرة، وتحتاج بالتأكيد إلى علم وخبرة، وتحتاج قبل كل ذلك إلى توفيق من الله، وإعانة وهداية وتسديد، وإنها ليسيرة على من يسرها الله عليه، ومن أدام قرع الباب يوشك أن يفتح له.
11- "لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ". لا تحصل رطوبة اللسان إلا باطمئنان القلب؛
قال تعالى:
{ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّٰلِحَٰتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَـَٔابٍۢ}
[الرعد: 28- 29].
12- إدمان الذكر يديم الذكر، وحب ذكر الله يجلب ذكر الله، وشكر الله على نعمة الذكر تجلب الذكر، وذوق الذكر تعين على استدامة الذكر، ومعرفة الأدوات المعينة على الذكر تسهل الذكر، ولا يحصل استجلاب توفيق الله للطاعات بمثل الاعتراف بنعمته والاعتذار عن العجز عن شكره سبحانه وتعالى.
13- لا يفوتنا التحذير من الابتداع في الدين؛ فإن البدع في باب الذكر كثيرة ومتعددة، والوقوف عند المسنون المشروع أفضل بلا شك وأنجى من عذاب الله، والحذر من ابتداع في كيفية أو نوع أو تحديدات لم يأت بها الشرع، فالوقوف مع السنة وإن خالفت الهوى هو الأولى.
ومخالفة الهوى والتوقف عن التوسع وراء البحث عن لذة توافق حظ نفس وشهوة أعون على الإخلاص وحصول الأجر، والله الموفق والمستعان.
اللهم ألزمنا حدودك وأقم وجوهنا لإقامة شرعك وارزقنا لزوم هدي نبيك
المراجع
- أخرجه أحمد (17142). وقال الأرنؤوط: صحيح.
- طريق الهجرتين 1/ 178.
- أخرجه أحمد (21654). وقال الأرنؤوط: حسن لغيره.
- أخرجه البخاري (6116).
- أخرجه أحمد (16616). وقال الأرنؤوط: صحيح.
- أخرجه أحمد (21702). وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح.