الحديث الرابع عشر (حديث الذوق)
الحديث الرابع عشر (حديث الذوق)
- قال مسلم رحمه الله: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ وَبِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ - الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا".
الحكم على الحديث:
صحيح مسلم (34).
أهمية الحديث
1- تأصيل فهم معاني المصطلحات الشرعية والاقتصار على مراد الشرع منها دون زيادة.
2- موقفنا من أهل البدع ومصطلحاتهم.
3- استشعار حلاوة الإيمان ومعانيه في العقيدة والعبادة تزيد الإيمان وتبعث على الثبات.
غريب الحديث
الذوق: يستعمل في كل ما يحس به ويوجد ألمه أو لذته، ولا يختص بما يكون بالفم (1).
فوائد الحديث
1- كلمة "الذوق" من المصطلحات التي استخدمها الصوفية وأكثروا من استعمالها في أساليبهم ووصف أحوالهم وطرقهم، ولعلهم خرجوا بها أحياناً عن معناها الشرعي المقصود، ولذلك أردنا بهذا الحديث رد هذه اللفظة إلى أصلها، وطالب الحق أحق بالحق أينما وجد.
وهذا منهج المدرسة الربانية؛ أننا نقبل الحق ممن جاء بها مهما كان، وأياً كان؛ فقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيحة الشيطان حين نصح بقراءة آية الكرسي قبل النوم، وقال: "صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ" (2). وبذلك صارت سنة.
ونرد الباطل على من جاء به ولو كان هذا الذي جاء به حبيباً لقلوبنا قريباً لنفوسنا، فالحق أحب إلينا من كل حبيب، وأقرب إلى قلوبنا من كل قريب.
2- وقد جاءت كلمة "الذوق" في هذا الحديث، فنحملُها على معناها في هذا الحديث كما هي دون غلو أو تقصير، فلا ننفيها لأن أهل البدع غلواً فيها، ولا نتجاوز حدود مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو القصد والعدل في التعامل مع النصوص الشرعية الغراء، والله الموفق والمستعان.
3- في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ". إثبات أن للإيمان طعم يذاق، فإثبات الذوق والطعم سبيل المؤمنين.
للإيمان طعم تتذوقه قلوب المؤمنين، وكما يتذوق اللسان طعم العسل مثلاً فيقول: هو شراب حلو. فكذلك الصادقون من المؤمنين تتذوق قلوبهم طعم أعمال الإيمان؛ فيذوقون مثلا حلاوة الذكر، وحلاوة السجود، وحلاوة تلاوة القرآن، وكما تتفاوت حلاوة الفاكهة في الألسن كذلك تتفاوت حلاوة أنواع العبادات في القلوب، وكما يتفاوت تمييز الناس للطعم من ذواقة وجاهل ومريض ومعدوم الحس كذلك الحال في أحوال الناس في تذوق طعم الإيمان.
4- لا بد أن نوقن أيضاً أن ذوق طعوم أعمال الإيمان ذلك فضل الله يمن به على من يشاء من عباده، ومعنى أن بعض الناس لا يجدها فليس معناها نفيها وعدم وجودها.
مع العلم أيضاً أن ذوق هذه الطعوم قد يأتي في وقت وينعدم في وقت آخر على حسب حال الشخص مع الله سبحانه؛ فقد تقوى وقد تضعف، وتزيد وتقل، وتتلاشى وتنعدم أحياناً، وتأتي فجأة وتأتي بالمجاهدة.
5-
في قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا".
أن مرد الأمر في ذوق طعم الإيمان يرجع في الأصل إلى الرضا بالله رباً.
والرضا ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: الرضا عن الله؛ وهو الرضا به سبحانه مقسماً للأرزاق، فيرضى الإنسان بما أعطاه الله من مال أو زوجة أو ولد أو غير ذلك فهو راض عن الله.
الدرجة الثانية: الرضا لله؛ وهو أعلى من الدرجة الأولى، ففي الأولى راض بما يرضيه مما أعطاه الله، أما هذه الدرجة فهو راض بالقليل وراض بالبلاء، فهو راض لله لا للعطاء.
الدرجة الثالثة: الرضا بالله؛ وهو أن يكون الله هو مطلبه وقرة عينه، فهو غير مشغول بالعطاء أو المنع، بل تستوي عند الحالات:
{لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَٰكُمْ ۗ}
[الحديد: 23].
فهذه أعلى الحالات؛ أن يكون مشغولاً بالله راضياً به، فلا يلتفت قلبه إلى عطاء أو منع، بل هو راض بالله وحده، قرت عينه بالله فارضاه الله، سواء أخذ منه أو عطاء، فيستوي عندي العطاء والمنع، فهو راض بالله وحده لا بعطاء الله سبحانه.
إذا حصلت للعبد هذه الحالة من الرضا وقرة العين بالله حينها يرزق حالة الذوق القلبي، فيستطيع حينها تذوق أعمال الإيمان، فيجد حلاوتها في قلبه؛ لأنه مشغول بالله متعلق القلب به، فحين تنقطع عن نفسه شهواتها وأهواؤها المردية، فيزهد في زينة الدنيا الفانية ويتطلع قلبه إلى ربه طالباً رضاه فيستطيع ساعتها أن يتذوق ويعيش تلك المعاني القلبية العظيمة.
6- الرضا بالإسلام هو قبول شريعته وعدم كراهيته أو رد شيء منه مهما كان؛
قال تعالى:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًا مُّبِينًا}
[الأحزاب: 36].
فلا بد للرضا بالإسلام ديناً من انشراح الصدر للشريعة الغراء كاملة مكملة؛
قال تعالى:
{فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُۥ يَشْرَحْ صَدْرَهُۥ لِلْإِسْلَٰمِ ۖ}
[الأنعام: 125].
فالرضا نفي الحرج من الصدر؛
قال تعالى:
{ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
[النساء: 65].
وبذلك تتم السماحة في التعامل مع كافة أحكام الإسلام؛ أوامره ونواهيه، وعده ووعيده، ثوابه وعقابه.
7- الرضا بمحمد صلى الله عليه وسلم يتطلب حبه وأن يكون أحب إلينا من أنفسنا ومن كل شيء ويكون أولى بك من نفسك التي بين جنبيك؛ فلا تقدم عليه أحداً في الحب ولا في الاتباع ولا في التأسي ولا في الطاعة ولا في الموالاة، وهكذا، فيكون إمامك وقدوتك ومثلك الأعلى الذي يحتذى، فأنت معجب به، متيم بحبه، مقبل عليه بقلبك وفؤادك، يملأ عليك حياتك وتشتهي رؤيته ولو بأهلك ومالك ونفسك وتشتاق للقائه وصحبته؛
قال تعالى:
{ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ }
[الأحزاب: 6].
وقال صلى الله عليه وسلم:
"لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (3).
وعن عبدالله بن هشام، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ". فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْآنَ يَا عُمَرُ" (4).
فهذا هو تمام الرضا برسول الله صلى الله عليه وسلم نبياً.
8- الرضا جنة الدنيا ومستراح المؤمنين الصادقين، وثمرته رضا الله سبحانه وتعالى، بل هو ثمرة رضا الله عن العبد؛
قال تعالى:
{وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ}
[المائدة: 119].
فرضاً العبد محفوف بين رضاءين من الله عز وجل؛ رضا قبله، ورضا بعده؛ رضي الله عن العبد فأرضاه؛ فلما رضي العبد عن الله أثابه على هذا الرضا رضا ثان أجل وأتم
9- إذا رضي الله عن العبد وآمنه من السخط فإن ذلك أفضل من الجنة؛
قال صلى الله عليه وسلم:
"إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا" (5).
10- تحقيق الذوق أنه لذة عارضة تطغى على قلب العابد، فلا يصح الترجيح بالذوق ولا بالاعتداد به حكماً.
11- الرضا بهذه الأمور سهلة بالدعوى واللسان، ومن أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان، لا سيما إذا جاءت بما يخالف هوى النفس ومرادها.
12- إذا ذاق العبد طعم الإيمان ظهر ثمرة ذلك على لسانه وجوارحه؛ فاستخلى اللسان ذكر الله وما والاه، وأسرعت الجوارح إلى طاعة الله، فحينئذ يدخل حب الإيمان في القلب كما يدخل حب الماء البارد الشديد برده في اليوم الشديد حره للظمآن الشديد عطشه.
13- الرضا بالأمور المذكورة غربه، فإياك أن تستوحش من الاغتراب والتفرد.
اللهم ارزقنا الرضا واجعلنا من الراضين المحبين
المراجع
- مجموع الفتاوى 7/ 110.
- أخرجه البخاري (2311).
- أخرجه البخاري (15)، ومسلم (44).
- أخرجه البخاري (6632).
- أخرجه البخاري (6549)، ومسلم (2829).