الحديث الثالث (حديث الصالحين)
الحديث الثالث (حديث الصالحين)
قال عبدالله بن أحمد بن حنبل رحمهما الله: حدثني هارون بن معروف، حدثنا محمد بن القاسم، حدثنا ثور، عن خالد بن معدان، عن أبي أمامة رضي الله عنه، قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِلهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى آنِيَةً فِي الأَرْضِ، وَأَحَبُّ الآنِيَةِ إِلَيْهِ مَا رَق مِنْهَا وَصَفا، وَآنِيَةُ اللهِ فِي الأرضِ قُلُوبُ العِبَادِ الصَّالِحِينَ".
الحكم على الحديث:
زوائد الزهد (523) - ومن طريقه أبو نعيم في الحلية 6/ 97. وقال الألباني رحمه الله: إسناد صحيح. الصحيحة (1691).
ورواه الطبراني رحمه الله من حديث أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه؛ فقال: حدثنا جعفر الفريابي، ثنا إسحاق ابن راهوية، ثنا بقية بن الوليد، عن محمد بن زياد، عن أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه، عن النبي صلى الله الله عليه وسلم،
قال: "إِنَّ لِلهِ آنِيَةً مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، وَآنِيَةِ رَبُكُمْ قُلُوبُ العِبَادِ الصَّالِحِينَ، وَأَحَبُّهَا إِلَيْهِ أَلْيَنُهَا وَأَرَقهَا".
مسند الشاميين (840). وقال الألباني: إسناد قوي. الصحيحة (1691).
أهمية الحديث:
1- أن تعلم أن الناس ليسوا سواء عند الله، بل لله خاصة وفئة مختصة.
2- سر الاجتباء صلاحية المحل؛ يعني طهارة القلب وسلامته ورقته وصفاءه.
3- أن تعلم أن المنح والودائع منن من الله يختص بها قلوباً دون قلوب.
فوائد الحديث
1- عباد الله الصالحون مرتبة ومنزلة ودرجة ومقام عال؛
قال تعالى:
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى ٱلصَّٰلِحِينَ}
[العنكبوت: 9].
2- هذه الدرجة العليا اجتباء واصطفاء؛ قال تعالى عن يونس عليه السلام:
{فَٱجْتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَجَعَلَهُۥ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ}.
[القلم: 50]
3- الاستشراف لهذه المنزلة والمداومة على طلبها والإلحاح في الوصول إليها هو سبيل الوصول إليها؛ انظر إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام يقول:
{رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّٰلِحِينَ}
[الشعراء: 83].
وهي دعوة سيدنا سليمان عليه السلام بعد كل ما أوتي:
{وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ ٱلصَّٰلِحِينَ}
[النمل: 19].
وهي دعوة سيدنا يوسف عليه السلام بعد التمكين والظهور:
{تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّٰلِحِينَ}
[يوسف: 101].
وتأمل معي كلام الرب العزبز جل في علاه حين يقول سبحانه:
{وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا ٱلْكِفْلِ ۖ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّٰبِرِينَ وَأَدْخَلْنَٰهُمْ فِى رَحْمَتِنَآ ۖ إِنَّهُم مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ}
[الأنبياء: 85-86]
فبعد صبرهم رحمهم الله بادخالهم في الصالحين، فاستشرف والتزم تنل.
4- هذه المنازل والدرجات والمقامات عند الله تنال بالعلم والعمل والاجتهاد في العبادة بفضل الله وتوفيقه وإعانته، فإذا علم الله من عبد صلاحيته أعانه على عمل يهيئه به لينال هذه الدرجة العالية الرفيعة.
وقال الله تعالى:
{وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَٰهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ وَءَاتَيْنَٰهُم مِّنَ ٱلْآيَٰتِ مَا فِيهِ بَلَٰٓؤٌا مُّبِينٌ}
[الدخان: 32- 33].
وقال سبحانه في الحديث القدسي:
"وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ" (1).
ولكل مقام مقال؛ فمقام الصابرين يحتاج إلى المجاهدة في الصبر ومعالجته، ومقام المتقين بالتقوى، وهكذا لكل مقام ودرجة عمل يناسبها، فاجتهد تنل.
5- صلاح القلب وطهارة السر وعبادة الخفاء وخمول الذكر وتعلق القلب بالله وحده أقوى الأسباب لتحصيل الدرجات.
6- "إِنَّ لِلهِ آنِيَةً مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ". هذه الكلمة تخطف قلوب الذين يحبون الله، يخطف قلوبهم أن لله جل وعلا آنية، وهذا عجيب عجيب، فيشتهي العبد المسكين الضعيف أن يكون إناءاً يضع الله فيه من منحه ما شاء، فيتلهف قلب العبد أن يكون كذلك.
7- "وَأَحَبُّ الآنِيَةِ إِلَيْهِ مَا رَق مِنْهَا وَصَفا". رقة القلب في حد ذاتها مطلب لراحة العبد ولذته وسعادته، وصفاء القلب من الأكدار والهموم والغموم غاية.
8- "أَلْيَنُهَا وَأَرَقهَا". أضيف إلى الرقة الصفاي واللين، فياله من قلب! وياله من حال! وياله من مقام! وياله من عبد اجتمع فيه شرط السعادة والهناء والقبول والرضا: الرقة والصفاء واللين!
ها قد أتتك أيها الرباني، وما عليك إلا العمل والاجتهاد ليحصل القبول.
9- القلب، وما أدراك ما القلب؛
قال صلى الله عليه وسلم:
"إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ" (2).
فالقلب هو محل نظر الرب، وهو محل عطايا الرب؛
قال تعالى:
{أُولَٰٓئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْإِيمَٰنَ}
[المجادلة: 22]
وقال تعالى:
{هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ}
[الفتح: 4].
فتعامل الله على القلوب، فأصلح قلبك أيها الرباني تنل مرادك.
10- بان لك أيها الحبيب أن الأمر ليس بالدعاوي والشكليات والمظاهر، دعك من قول الناس ومدحهم، هل قلبك من قلوب الصالحين؟ هل تجد الرقة والصفاء واللين؟ هل تتفقد قلبك فتجد مواهب الرب واعطياته ومننه كل حين؟
قيل لعيسى بن وردان رحمه الله: ما غاية شهوتك من الدنيا؟ فبكى، ثم قال: أشتهي أن ينفرج لي عن صدري فأنظر إلى قلبي ماذا صنع القرآن فيه وما نكأ (3).
ليتك أيها الحبيب تعاني هذه الشهوة؛ أن ينفرج لك عن صدرك فتنظر إلى قلبك لتراه هل هو يصلح أن يكون إناءاً؟ هل يصلح أن يحبه الله؟ هل يصلح أن يكون محلاً لرضا الرحمن؟
قال ابن القيم رحمه الله: فكرت هل للتوفيق والخذلان سبب أم هما بمجرد المشيئة لا سبب لهما؟ إذا سببهما أهلية المحل وعدمها؛ فهو سبحانه خالق المحال متفاوتة الاستعداد والقبول أعظم تفاوت (4).
اللهم أصلحنا لكي نصلح أن نكون من عبادك الصالحين
وأصلح قلوبنا لتكون محلاً لرحمتك وفضلك
المراجع
- أخرجه البخاري (6502).
- أخرجه مسلم (2564/ 33)
- أخرجه ابن أبي الدنيا في المتمنين (66).
- الفوائد صـ 205.