الحديث الرابع والثلاثون حديث الغنى
- قال البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ".
الحكم على الحديث:
متفق عليه؛ صحيح البخاري (6446)، صحيح مسلم (1051).
- وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟" قلت: نعم يا رسول الله. قال: "فترى قلة المال هو الفقر؟" قلت: نعم يا رسول الله. قال: "إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب".
السنن الكبرى للنسائي (11785). وقال الألباني: صحيح. صحيح الترغيب والترهيب (827).
أهمية الحديث
1- معرفة المعنى الحقيقي للغنى والفقر.
2- كف يد الطمع عن التكالب على الدنيا.
3- الغنى بالله هو الغنى العالي، فكيف يكون؟
غريب الحديث
1- ليس الغنى: أي الحقيقي المعتبر.
2- كثرة العرض: المتاع.
3- غنى النفس: شبعها وقلة حرصها.
فوائد الحديث
1- النفس أمارة بالسوء، والإنسان خلق هلوعاً جموعاً منوعاً قتوراً؛ قال تعالى:
{وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبًّا جَمًّا } [الفجر: 20]
.
وقال سبحانه: {وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8].
يعني المال.
وقال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلْأَنْعَٰمِ وَٱلْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ ٱلْمَـَٔابِ} [آل عمران: 14].
وهكذا الإنسان بطبعه يحب المال ويريد الاستكثار منه، وما يزيده ذلك إلا نهما لا شبعاً.
قال صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا" (1). وهذا كله يؤدي إلى طغيانه؛ قال سبحانه: {كَلَّآ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰٓ أَن رَّءَاهُ ٱسْتَغْنَىٰٓ } [العلق: 6- 7].
وعلاج هذا كله في تزكية النفس وتطهيرها من الطمع والجشع واللهفة على الشهوات، ولا يكون ذلك أبداً إلا يغنى النفس وغنى القلب.
2- الغنى نوعان؛ عنى عال وغنى عارض، فالغنى العارض بالعواري المستردة من أعراض الدنيا الزائلة كالمال والمنصب والجاه، وهذا أضعف الغنى؛ فإنه عنى بظل زائل وعارية مستردة، فإذا الفقر بأجمعه بعد زوالها.
______________________
- أخرجه البخاري (6436)، ومسلم (1048).
3- الغني إنما يصير غنياً بحصول ما يسد فاقته ويدفع حاجته، وفي القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدها إلا الله؛ كما أنه سبحانه الغني على الحقيقة ولا غني سواه، فالغني به هو الغني في الحقيقة ولا غنى بغيره البتة، فمن لم يستغن به عما سواه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن استغنى بالله زالت عنه كل حسرة وحضره كل سرور وفرح؛ قال تعالى:
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ} [فاطر: 15].
4- ليس الغنى عن كثرة العرض". هنا ينفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حصول الغنى بكثرة المال وكثرة الأملاك وكثرة أعراض الدنيا، فكل هذه لا تعني القلب ولا تغني النفس، ولا تسد الفاقة، إنما هي أعراض زائلة ومقتنيات عارضة؛ قال تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍۢ ۗ} [النحل: 96].
5- "غنى النفس" صلاح النفس متقدم على صلاح القلب؛ لأن النفس أمارة، وفيها من الصفات المذمومة الكثير؛ فصفات الإنسان قبل التزكية:
- {إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19- 21]. {وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ قَتُورًا} [الإسراء: 100]. {خُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ مِنْ عَجَلٍۢ ۚ } [الأنبياء: 37]. {وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ أَكْثَرَ شَىْءٍۢ جَدَلًا } [الكهف: 54].
وكل هذه صفات للنفس قبل التزكية، وتعمل التزكية عملها بتطهير النفس من هذه الصفات المذمومة؛ فإذا زكيت وطهرت وصارت نفساً مطمئنة انتقل العمل إلى القلب؛ لأنه في الأصل مطمئن بذكر الله.
6- غنى النفس من الإيمان؛ قال صلى الله عليه وسلم: "وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ" (1).
7- "غنى النفس". بالرضا بالله مقسماً للأرزاق، يعني توحيد الربوبية؛ وهو الرضا بالله رباً، فتصير النفس مطمئنة بعد أن كانت لوامة، ,غنما تصير مطمئنة بعد تبدل صفاتها وانقلاب طبعها، وإذا وصلت النفس إلى هذه الحال استغنت بالله وبما عند الله عن التطاول إلى الشهوات.
فإذا صارت طيبة مطمئنة بعد أن كانت لوامة، وإنما تصير مطمئنة بعد تبدل صفاتها وانقلاب طبعها، وإذا وصلت النفس إلى هذه الحال استغنت بالله وبما عند الله عن التطاول إلى الشهوات.
فإذا صارت طيبة مطمئنة بالله غنية بما أغناها به مالكها وفاطرها استغنت حينئذ بالله عن كل شيء.
8- غنى النفس غنى لا فقر بعده؛ إذ غناها بربها سبحانه وتعالى؛ فمن استغنى بربه افتقر إليه كل شيء.
9- الله سبحانه وتعالى من أسمائه الغني، فالاستغناء به عمل بموجب صفاته سبحانه؛ فهو يحب أن يرى أثر صفاته على عباده، فكما أنه سبحانه هو الغنى على الحقيقة ولا غنى سواه، فالغنى به هو الغنى في الحقيقة ولا غنى بغيره البتة، فمن لم يستغن به عما سواه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة، وحضره كل سرور وفرح.
10- أخي الرباني، لا تطلب الغنى بالمال ولا بالمنصب والجاه والشهرة والأتباع ولا شيء من الدنيا، فكل ذلكم عين الفقر؛ فقر احتياجك إليه وقيامك به.
والغنى الحقيقي غناك بالله سبحانه، فيغنيك عن كل ذلك، وقيام ذلك الغنى بالقلب وبالنفس هو شعورك بالغنى عن الناس وافتقارك إلى رب الناس وحده.
اللهم أغننا بغناك وبفضلك عمن سواك
______________________
- أخرجه البخاري (923).