كمال الدين


صالح أحمد الشامي



قال الله تعالى: 

{ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا ۚ } [المائدة: 3].

كان ذلك اليوم هو يوم عرفة من حجة الوداع، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقي خطبته المشهورة، وحينها نزل قوله تعالى: 

{ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا ۚ }.

كان هذا النزول أيذاناً بانتهاء مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقرب موعد وفاته، وهذا ما أدركه بعض الصحابة رضي الله عنهم.

ولم تطل حياته صلى الله عليه وسلم بعد عودته من حجته، فقد انتقل إلى الرفيق الأعلى في سهر ربيع الأول، أي بعد ثلاثة أشهر.

كانت حكمة الله بالغة، وفضله عميماً في نزول هذه الآية الكريمة في هذه المناسبة التي جمعت عشرات الآلاف من الصحابة حتى يشهدوا نزولها، ويسمعوا تلاوتها لأول مرة من فمه الكريم صلى الله عليه وسلم.

فلو توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تنزل هذه الآية، لظن بعضهم أن الدين لم يكتمل. وأن وفاته صلى الله عليه وسلم حالت دون ذلك، ولكن الله تعالى رؤوف بعباده المؤمنين، فكان نزولها في أكبر تجمع إسلامي يومئذ؛ ليكون البلاغ عاماً وليطمئن المؤمنون على تمام نعمة الله عليهم.

والآية الكريمة تقرر ثلاثة أمور مرتبط بعضها ببعض:

1- إكمال الله تعالى هذا الدين عقيدة وشريعة.

2- إتمام نعمته تعالى على عباده بهذا الإكمال.

3- وأنه تعالى ارتضى لعباده الإسلام ديناً.

 

قال الإمام ابن كثير بعد أن ذكر الآية الكريمة:

"هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامة عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف..".

وجاء في "الظلال" بعد ذكر الآية الكريمة:

"ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة، فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة، وتوجيهات عميقة، ومقتضيات وتكاليف.

ويقف المؤمن أولاً: أمام إعلان إكمال العقيدة، وإكمال الشريعة معاً، فهذا هو الدين، ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين - بمعناه هذا - نقصاً يستدعي الإكمال، ولا قصوراً يستدعي الإضافة، ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحرير.. وإلا فما هو بمؤمن، وما هو بمقر بصدق الله، وما هو بمرتضٍ ما ارتضاه الله للمؤمنين.

إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن، هي شريعة كل زمان، لأنها - بشهادة الله - شريعة الدين الذي جاء "للإنسان" في كل زمان وفي كل مكان.

والأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي.

والمبادئ الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان، دون أن تخرج عليه، إلا أن تخرج في إطار الإيمان.

والله الذي خلق "الإنسان" ويعلم من خلق، هو الذي رضي له هذا الدين، المحتوي على هذه الشريعة، فلا يقول: إن شريعة الأمس ليس شريعة اليوم، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان وبأطوار الإنسان.

ويقف المؤمن ثانياً: أمام إتمام نعمة الله على المؤمنين بإكمال هذا الدين، وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة.

النعمة التي تمثل مولد "الإنسان" في الحقيقة، كما تمثل نشأته واكتماله.

"فالإنسان" لا وجود له قبل أن يعرف إلهه، كما يعرفه هذا الدين له، وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود وكرامته على ربه، كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه.

و"الإنسان" لا وجود له قبل أن يتحرر من عبادة العبيد بعبادة الله وحده وقبل أن ينال المساواة الحقيقية بأن تكون شريعته من صنع الله وبسلطانه، لا من صنع أحد ولا سلطانه.

إن معرفة "الإنسان" بهذه الحقائق الكبرى، كما صورها هذا الدين، خي بدء مولد "الإنسان".

ولا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين، ولا يقدرها قدرها من لم يعرف حقيقة الجاهلية، ومن لم يذق ويلاتها، والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه الله تعالى.

الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى، وويلات الحيرة والتمزق، وويلات الضياع والخواء، في معتقدات الجاهلية وتصوراتها في كل زمان وفي كل مكان.. هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الإيمان.

ويقف المؤمن ثالثاً: أمام ارتضاء الله الإسلام ديناً للذين آمنوا، يقف أمام رعاية الله سبحانه وعنايته بهذه الأمة، حتى ليختار دينها ويرتضيه.

إن ارتضاء الله الإسلام ديناً لهذه الأمة يقتضي منها ابتداءً أن تدرك قيمة هذا الاختيار، ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار.

وإن الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أو رفضوه، واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه الله لهم لن يتركهم الله ولن يمهلهم أبداً، حتى يذوقوا وبال أمرهم.

وبعد:

إن من نعمة الله على الإنسان أن يكون في عداد المؤمنين المخاطبين بهذه الآية الكريمة، العاملين على التزام وتنفيذ ما تقتضيه.

وطوبى لمؤمن شمله الخطاب الإلهي بــ {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ} و{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ} و {وَرَضِيتُ لَكُمُ} ٱلْإِسْلَٰمَ}؛ فذلك هو التكريم الإلهي والعطاء الإلهي.

والمسلم الذي رضي لنفسه ما رضيه الله له هو الذي حكم هذا الدين في حياته، وصبغها بصبغته:

فأسلم عقله.

وألمت روحه.

وأسلمت مشاعره.

وأسلم جسمه.

وأسلمت كلماته وألفاظه.

وأسلم كل ما فيه.

وبهذا يكون قد رضي لنفسه ما رضيه الله له، واستحق أن يكون أحد المخاطبين بهذه الآية الكريم.

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ كمال الدين

  • الغني

    موقع/ الدرر السنية

     قال تعالى: [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ

    19/05/2021 575
  • الفرق بين الدين والمذهب

    فريق عمل الموقع

      الدين أشمل من المذهب وأوسع مفهوما؛  لأن الدين يشتمل على اعتقاد الإنسان حول الخالق والمخلوقات وأمور

    24/01/2010 10632
  • قسم الحديث السؤال الرابع

    يزن الغانم

    س: أكمل الحديث «أكمل المؤمنين إيماناً. . . » واذكر بعض فوائده؟ ج- عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ

    12/02/2022 440
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day