معنى اسم الله الرزاق


الشيخ/ وحيد عبد السلام بالي

الدَّلَالَاتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسمِ (الرَّزاق)[1]:

الرَّزَّاقُ في اللغة مِنْ صيغِ المبالغةِ على وزن فعَّال منِ اسم الفاعل الرازِق، فعلُه رَزَقَ يَرْزقُ رِزْقًا، والمصدر الرِّزْقُ وهو ما يُنتَفعُ به والجمع أرزاق[2].

وحقيقةُ الرِّزْقِ هو العطاءُ المتجدّدُ الذي يأخذُهُ صاحبُه في كلِّ تقديرٍ يوميٍّ أو سَنويٍّ أو عُمُريٍّ فينال ما قُسِم له في التقديرِ الأزلي والميثاقي.

والرَّزَّاقُ سبحانه هو الذي يتولى تنفيذَ المقدَّرِ في عطاءِ الرِّزْقِ المَقسومِ، والذي يخرجُه في السماواتِ والأرضِ، فإخراجُه في السماواتِ يعني: أنه مقضيٌّ مكتوبٌ، وإخراجه في الأرض يعني أنه سَينفُذُ لا محالةَ؛ ولذلك قال الله تعالى في شأن الهدهدِ الموحِّدِ ومخاطبتهِ سليمانَ:

﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [النمل: 25، 26]

فالرزقُ مكتوبٌ في السماءِ وهو وَعْدُ اللهِ وحُكمُه في القضاءِ قبل أن يكونَ واقعًا مقدورًا في الأرضِ.

قال سبحانه وتعالى:

﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ [الذاريات: 22]

وقال عن تنفيذ ما قَسَمَهُ لكل مخلوقٍ فيما سبق به القضاء:

﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [العنكبوت: 60]

وقال تعالي: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود: 6]، فالله يتولاَّها لحظةً بلحظةٍ تنفيذًا للمقسومِ في سابقِ التقديرِ.

فالرَّزَّاقُ سبحانه هو الذي يتولى تنفيذَ العطاء الذي قدَّرَهُ لأرزاقِ الخلائق لحظةً بلحظةٍ فهو كثيرُ الإنفاقِ، وهو المفيضُ بالأرزاق رِزْقًا بعد رزقٍ، مبالغةً في الإرْزاقِ وما يتعلَّقُ بقسْمَةِ الأرزاق وترتيبِ أسبابها في المخلوقاتِ، ألا ترى أن الذئبَ قد جعلَ اللهُ رِزْقَهُ في أَنْ يصيدَ الثعلبَ فيأكُلَهُ، والثعلبُ رزقُه أن يصيدَ القُنفذَ فيأكُلَه، والقُنفُذُ رزقُهُ أن يصيدَ الأفعى فيأكلَهَا، والأفعى رزقُهَا أن تصيدَ الطيرَ فتأكُلَه، والطيرُ رزقُه في أَنْ يصيدَ الجرادَ فيأكُلَه[3]، وتتوالى السِّلسةُ في أرزاقٍ متسلسلةٍ رتَّبها الرَّزَّاق في خلقِهِ...

فتبارك الذي أتقَنَ كلَّ شيءٍ في مُلكِهِ، وجعل رِزْقَ الخلائقِ عليه، ضَمِنَ رزقَهُم وسيؤدِّيه لهم كما وَعَدَ، وكل ذلك ليركنوا إليه ويعبدوه وحدَه لا شريكَ له قال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58][4]

فالأرزاقُ مقسُومةٌ، ولَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَو يُؤخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ، وعند مسلمٍ من حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه؛ أنه قال: "قَالَتْ أُمُّ حَبيبَةَ زَوْجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ أَمْتعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَبأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبأَخي مُعَاوْيَةَ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ سَألْتِ اللَه لآجَالٍ مَضْرُوبَة، وأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شيْئًا عَنْ حِلِّهِ[5]، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَّابٍ في النَّارِ أَوْ عَذَابٍ في الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وأَفْضَلَ"[6].

وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3]، وفي هذا بيانُ أنَّ الذي قَدَّره من الرزق على العمومِ والإجمالِ سيتولَّاه في الخلقِ على مَدَارِ الوقتِ والتفصيلِ فهو سبحانه الرَّزَّاقُ الخلَّاقُ القَديرُ المقتَدر.

الدَّلَالَاتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسمِ (الرَّازِق)[7]:

الرَّازقُ في اللغة اسمُ فاعِلٍ، فعلُه رَزَقَ يرزُق رَزْقًا ورِزْقًا.

والرِّزْقُ هو ما يُنْتَفعُ به وجمعه أَرْزاقٌ، والرِّزْقُ هو العَطاءُ.

واسْتَرْزَقه يعني: طَلَبَ منه الرِّزق، وقد يُسمَّى المطرُ رزقًا لأن الرِّزْقَ يكون على أَثرِهِ، ومعني قولِ اللهِ تعالى:

﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ [الواقعة: 82]

أي: شُكْرَ رزْقِكُم؛ مثلُ قولهم: مُطِرنا بنَوْءِ الثُّرِيَّا أو بِنَوْءِ كذا وكذا.

والأرزاقُ نوعانِ: ظاهرةٌ كالأقوات للأبدانِ، وباطنة كالمعارفِ والإيمانِ للقلوبِ والنُّفوسِ[8].

والرازِقُ سُبحانه هو الذي يَرزُقُ الخلائقَ أَجمعينَ، وهو الذي قَدَّرَ أَرْزاقَهم قَبْلَ خلْق العالمين، وهو الذي تَكفَّلَ باستكمالِها ولو بَعْدَ حينٍ، فلنْ تموتَ نفسٌ إلا باستكمالِ رزقِها كما أخبرنا الصادقُ الأمينُ صلى الله عليه وسلم.

روى ابنُ ماجه، وصححه الألبانيُّ من حديث جَابر رضي الله عنه؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا الله وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ؛ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقوا الله وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ؛ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ"[9].

ومِن حديثِ أبي أُمامةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:

"إِنَّ رُوحَ القُدسِ نَفَثَ فِي رُوعي أَنَّ نفسًا لنْ تموتَ حتى تستكمِلَ أَجلَها وتستوعبَ رِزْقَها، فاتقوا اللهَ وأجْمِلُوا فِي الطلبِ، ولا يحمِلَنَّ أحدَكُم استبطاءُ الرِّزقِ أَنْ يطلبَهُ بمعصيةِ اللهِ، فإنَّ الله تعالى لا يُنالُ ما عندَهُ إلا بطاعتِهِ"[10]

وقال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [فاطر: 3]

فالرَّازق اسمٌ يدلُّ على وَصْفِ الرِّزْقِ المقَارنِ للخلقِ فِي التقديرِ الأزلي والميثاقي، فالله سبحانه قَدَّرَ خلْقَهم ورِزْقَهُم معًا قبلَ وجودِهم، وكتبَ أرزَاقَهُمْ فِي الدُّنيا والآخرِة قبل إنشائِهم، فالرّزقُ وصفٌ عامٌّ يتعلقُ بعمومِ الكونِ فِي عالمِ الملكِ والملكوتِ.

قال ابنُ تيميةَ: "والرِّزق اسمٌ لكل ما يَغتذِى به الإنسانُ، وذلك يعمُّ رزقَ الدُّنيا ورزقَ الآخِرَةِ... فلا بُدَّ لكل مخلوقٍ من الرِّزقِ، قال اللهُ تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود: 6]، حتى إنَّ ما يَتناوله العبدُ من الحرامِ هو داخلٌ فِي هذا الرزقِ، فالكفارُ قد يُرزقون بأسبابٍ محرَّمةٍ ويُرزقون رزقًا حسنًا، وقد لا يُرزقون إلا بتكلُّفٍ، وأهل التقوى يَرزقُهم الله من حيثُ لا يحتسبون، ولا يكون رزقُهم بأسبابٍ محرمةٍ ولا يكون خبيثًا، والتقيُّ لا يُحرَمُ ما يحتاجُ إليه مِنَ الرِّزقِ، وإنما يُحمَى من فضولِ الدُّنيا رحمةً به وإحسانًا إليه، فإِنَّ توسيعَ الرِّزقِ قد يكونُ مَضَرَّةً على صاحبه، وتقديرَهُ قد يكونُ رحمةً لصاحبِهِ"[11].

وُرُودُ الاسْمَين فِي القرآنِ الكريمِ[12]:

وَرَدَ الاسمُ مفردًا مَرَّةً واحدةً فِي قولِه تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58]

وقد قرأ ابنُ محيصن وغيرُه: (الرَّازِقُ)[13].

وَوَرَدَ بصيغةِ الجمعِ خَمْسَ مرّاتٍ منها قولُهُ تعالى:

﴿ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [المائدة: 114]

وقوله سبحانه:

﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [الجمعة: 11]

مَعْنَى الاسمين فِي حَقِّ الله تَعَالَى:

قال ابنُ جريرٍ: "هو الرزَّاقُ خلْقَهُ، المتكفِّلُ بأقواتِهم"[14].

قال الخطابي: "هو المُتكفِّلُ بالرِّزقِ، والقائمُ على كلِّ نفسٍ بما يُقيمُها مِنْ قُوتِها، وَسِعَ الخَلْقَ كلَّهم رزقُهُ ورحمتُهُ.

فلم يختصَّ بذلك مؤمنًا دون كافرٍ، ولا وليًّا دُونَ عدُوٍّ.

يسوقُه إلى الضَّعيفِ الذي لا حيلَ له، ولا مُتَكَسَّبَ فيه، كما يسوقُه إلى الجَلْدِ القويِّ ذي المِرَّةِ السَّويِّ، قال سُبْحانَهُ:

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾ [العنكبوت: 60]

وقال تعالى:

﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود: 6]"[15]

وقال الحليميُّ في معنى: "(الرَّازِق): المُفِيضُ على عبادِهِ ما لم يَجْعَلْ لأبدانِهم قوامًا إلا بِهِ، والمُنعِمُ عليهم بإيصالِ حاجتِهم من ذلك إليهم، لئلا تتنغَّصَ عليهم لذَّةُ الحياةِ بتأخُّرِه عنهم، ولا يفقدوها أصلًا لفقدِهم إِيّاهُ".

وقال فِي معنى (الرَّزَّاق): "وهو الرَّزاقُ رزقًا بعدَ رِزقٍ، والمُكثرُ الموسِعُ له"[16].

وقال ابنُ الأثير: "(الرَّزَّاقُ) وهو الذي خَلَقَ الأرزاقَ وأعطى الخلائِقَ أرزاقَها وأَوصلَها إِليهم"[17].

وقال السَّعديُّ: "(الرَّزاقُ) لجميعِ عبادِهِ، فما مِنْ دابةٍ فِي الأرضِ إلَّا على الله رِزقُها.

ورِزْقُه لعبادِهِ نوعانِ:

1- رزقٌ عامٌّ شملَ البرَّ والفاجِرَ، والأولينَ والآخرينَ؛ وهو رِزْقُ الأبدان.

2- ورزقٌ خاصٌّ؛ وهو (رِزْقُ) القلوبِ، وتغذيتُها بالعِلمِ والإيمانِ.

والرِّزقُ الحَلالُ الذي يُعينُ على صلاحِ الدِّينِ، وهذا خاصٌّ بالمؤمنين على مراتِبهم منه بحَسبِ ما تقتضيه حكمتُه ورحمتُه"[18].

وقوله قريبٌ مما ساقه ابنُ القيِّمِ فِي (النونية):

وكذلك الرزَّاق من أسْمائِهِ  والرزْقُ من أفْعَاله نوعان  رزقٌ على يدِ عَبْدِهِ ورسولِهِ  نوعان أيضًا ذانِ معروفانِ  رِزْقُ القُلوبِ العِلمُ والإيمانُ وال  رزقُ المُعَدُّ لهذه الأبدانِ  هذا هو الرزقُ الحلالُ وربُّنَا  رَزَّاقُه والفَضْلُ للمنانِ  والثانِ سَوْقُ القُوتِ للأعضاءِ في  تلكَ المجاري سَوْقُه بوِزَانِ  هذا يكونُ من الحلالِ كما يكو  نُ من الحرامِ كلاهما رِزْقانِ  واللهُ رَازقُهُ بهذا الاعتِبا  رِ وليس بالإطلاق دُونَ بيانِ 

 

ثمراتُ الإيمان بهذين الاسمينِ:

1- إِنَّ المُتفَرِّدَ بالرزقِ هو اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، قال عز وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ [فاطر: 3]

وقال سبحانه:

﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 24]

يُنبِّه اللهُ عبادَهُ إلى الاستدلالِ على توحيدِهِ وإفرادِهِ بالعبادَةِ، أَنّه سُبحانه هو المُسْتقلُّ بالخلْق والرِّزقِ لا يُشاركُه أحدٌ في ذلك، وإذا كان كذلك، فليُفرَد بالعبادةِ ولا يُشْرَكَ به غيرُه من الأصنام والأندادِ، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾؛ أي: كيف تُصرَفون بَعْدَ هذا البيانِ عن عبادَةِ اللهِ وَحْدَهُ.

وقد أنكر اللهُ على المشركينَ عبادتَهم للأوثانِ والأصنامِ مع أَنَّها لا تملِكُ لهم رزقًا ولا تملكُ لهم ضرًّا ولا نفعًا؛ قال سبحانه:

﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ﴾ [النحل: 73]

فأخبر تعالى أَنَّها لا تملِكُ لهم رِزقًا ولا تستطيعُ ذلك ثُمَّ قال سبحانه:

﴿ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ ﴾ [النحل: 74]

أي: لا تجعلوا له الأندادَ والأشباهَ والأمثالَ

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 74]

أي: أَنَّه يعلمُ ويَشْهدُ أَنَّه لا إله إلا هو المتفَرِّدُ بالخلْقِ والرِّزقِ وأنتم بجهلِكُم تُشركون به[19].

وكذا قوله تعالى:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الروم: 40]

أي: لا يَقْدر شركاؤُكم على شيءٍ مِن ذلك أبدًا، بل لو أَمْسَكَ اللهُ سبحانه الرزقَ عن النَّاسِ، فلا يملك أحدٌ أَنْ يفتحَهُ عليهم من دُونِ اللهِ.

قال تعالى:

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر: 2]

وقولُهُ جلَّ وعلا:

﴿ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ﴾ [الملك: 21]

أي: أمَّن هذا الذي يُطعمُكم ويَسْقِيكُم ويأتي بأقواتِكم إِنْ أمسَكَ ربُّكم رزقَهُ الذي يرزقُكم عنكم[20].

وقد وَرَدَ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يقولُ إذا انصرفَ مِن الصَّلاةِ:

"لَا إِلَهَ إِلَّا اللُه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ"[21]

2- إِنَّ الله عز وجل متكفِّلٌ برزقِ مَنْ في السماواتِ والأرضِ، قال سبحانه:

﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود: 6]

وقال:

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾ [العنكبوت: 60]

قال ابنُ كثير: "أي: لا تُطيقُ جمعَهُ ولا تحصيلَهُ، ولا تَدَّخِرُ شيئًا لغدٍ، ﴿ اللَّهُ يَرْزُقُهَا ﴾؛ أي: يُقَيِّضُ لها رزقَها على ضَعْفِها ويُيَسِّره عليها، فيَبعثُ إلى كُلِّ مخلوقٍ من الرِّزْقِ مَا يُصْلِحُهُ حتَّى الذَّرَّ في قرارِ الأرضِ، والطيرُ في الهواءِ، والحيتانُ في الماء"[22].

3- قال القرطبيُّ: "والفَرْق بين القُوتِ والرِّزق، أَنَّ القُوتَ ما به قَوامُ البنْيةِ مما يُؤكلُ ويَقعُ به الاغتذاءُ.

والرِّزقُ كلُّ ما يَدْخُل تحت مِلْكِ العبدِ: مما يُؤكلُ ومما لا يُؤكلُ، وهو مراتبُ أعلاها ما يُغذي.

وقد حَصَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجوهَ الانتفاعِ في الرِّزق في قوله:

"يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ"[23]

وفي معنى اللِّباسِ يَدخُلُ المركوبُ وغيرُ ذلك مما يَنْتَفعُ به الإنسانُ، والقوتُ رِزْقٌ مخصوصٌ، وهو المضمونُ من الرِّزقِ الذي لا يَقطعُه عجزٌ، ولا يجلبُه كيْسٌ، وهو الذي أرادَ تعالى بقولِهِ:

﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود: 6]

فلا ينقطعُ هذا الرزقُ إلا بانقطاعِ الحياةِ"[24].

4- وكلُّ ذلك بلا ثِقَلٍ ولا كُلفَةٍ ولا مَشقَّةٍ، قال الطحاويُّ رحمه الله: "رازقٌ بلا مُؤْنةٍ" اهـ[25].

بل لو سألوه جميعًا فأعطاهم لم ينقُصْ ذلك مِن مُلكه شيئًا، كما جاء في قوله تعالى في الحديث القدسي:

"يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمِ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ"[26]

5- إِنَّ اللهَ سُبحانه لم يَخْتصَّ برزقِهِ مَنْ آمن فِي الحياة الدُّنيا، وإنما كان الرِّزقُ فِي الدنيا للجميعِ، للمؤمنين والكافرين، وهذا مِنْ عظيمِ لُطْفِهِ سُبحانه كما قال: ﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴾ [الشورى: 19].

وعن أبي موسى الأشعري قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذَىً سَمِعَهُ مِنَ اللهِ، يَدْعُونَ لَهُ الوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ"[27].

ومعناه أَنَّ الله سبحانه واسعُ الحِلْمِ حتى مع الكافرِ الذي يَنْسُبُ له الولدَ؛ فهو يُعافيه ويرزقُهُ.

6- إِنَّ الله سُبْحانَهُ متحكِّمٌ فِي أرزاقِ عبادِهِ فيجعلُ مَنْ يشاءُ غنيًّا كثيرَ الرِّزْقِ، ويقترُ على آخرين، وله فِي ذلك حِكَمٌ بالغةٌ، 

قال تعالى:

﴿ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ﴾ [النحل: 71]

وقال سُبْحَانَهُ: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 30]

قال ابنُ كثيرٍ: "أي: خبيرٌ بصيرٌ بمَنْ يستحِقُّ الغِنى ومَنْ يستحِقُّ الفَقرَ"[28].

فمِنَ العبادِ مَنْ لا يَصْلحُ حالهُ إلا بالغنى فإن أصابَهُ الفقرُ فسَدَ حالهُ، ومنهم العكسُ ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 30].

وقال ابنُ كثيرٍ في معنى قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الشورى: 27]: "ولو أعطاهُمْ فوقَ حاجتِهم من الرِّزقِ لحملَهُمْ ذلك على البَغْي والطُّغيانِ مِنْ بعضِهم على بَعْضٍ أَشَرًا وبَطَرًا".

ثم قال تعالى:

﴿ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27]

وهذا كقوله سبحانه: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21]

7- كثرةُ الرِّزْقِ فِي الدُّنيا لا تدلُّ على محبَّةِ اللهِ تعالى، ولكنَّ الكفارَ لجهلهم ظنُّوا ذلك، قال تعالى عنهم:

﴿ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ [سبأ: 35 - 37]

فظنَّ الكُفَّارُ والمُترَفونَ أَنَّ كثرةَ الأموالِ والأولادِ دليلٌ على محبَّةِ اللهِ لهم واعتنائِهِ بهم، وأَنَّه ما كان ليُعطيَهُمْ هذا فِي الدُّنيا ثم يعذّبَهُم فِي الآخرة، وقد رَدَّ اللهُ هذا بقوله: ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 55، 56]، ثم قال تعالى: ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ﴾، أي: ليسَتْ كثرةُ الأموالِ والأولادِ، هي التي تقرِّبُ مِنَ اللهِ أو تُبعِدُ ﴿ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾، أي: إنما يُقرِّبُ من اللِه الإيمانُ به، وعملُ البِرِّ والصالحاتِ.

وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم:

"إِنَّ الَله لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ"، وفِي رواية: "وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ"[29]

وَبَيَّنَ تعالى أنهم يَرْضَوْنَ بالحياةِ الدُّنيا وأرزاقِها، ويطمئِنُّون إليها، ويَفرحون بها؛ لأنهم لا يَرْجُون بعثًا ولا حسابًا، غافلون عن الآخرِة وأهوالِهَا. قال سُبْحَانَهُ:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يونس: 7، 8]

وقال سبحانه:

﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾ [الرعد: 26]

ولمْ يعلموا أَنَّ الدُّنيا عندَ اللهِ لا تَزِنُ شيئًا، كما جاء فِي حديثِ سَهْلِ بن سعدٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ"[30].

ولذلك فإنَّ اللهَ يُعطيها لمن يُحِبُّ، ولَمِنْ لا يحبُّ؛ فليس كثرةُ الرِّزقِ دليلًا على الكرامَةِ، ولا قِلَّتُه دليلًا على الإهانةِ

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾ [الفجر: 15، 16]

وقوله سُبْحَانَهُ فِي آخرِ آيةِ الرَّعدِ السَّابقةِ:

﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾ [الرعد: 26]

دليلٌ على قِصَرِ عُمر الدُّنيا، وقلّةِ خَطَرِها بالنسبةِ للآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم:

"وَمَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ أُصْبُعَهُ فِي اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ"[31]

8- إِنَّ تقوى اللهِ وطاعتَهُ سببٌ عظيمٌ للرِّزقِ والبَركَةِ فيه، قال سُبحانه عن أهل الكتابِ:

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ [المائدة: 66]

وقال:

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96]

وقال جل شأنه:

﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]

أي: مِنْ جهةٍ لا تخطر ببالهِ.

وقال سبحانه:

﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ﴾ [الجن: 16]

وتَأَذَّنَ بالزيادةِ لمَنْ شَكَر:

﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]

9- والعكسُ صحيحٌ أيضًا؛ فإنَّ المعصيَةَ تنقصُ الرِّزقَ والبركَةَ، لأن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعتِه، قال سبحانه:

﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]

قيل: الفسادُ فِي البَرِّ القَحْطُ وقلَّةُ النباتِ وذَهَابُ البركةِ، والفسادُ فِي البحر انقطاعُ صيدِهِ بِذنوبِ بني آدمَ.

وقيل: هو كسادُ الأسعارِ وقلَّةُ المَعاشِ.

10- أعظمُ رزقٍ يَرْزُقُ اللهُ به عِبادَهُ هو (الجَنَّةُ) التي أَعدَّها اللهُ لعبادِهِ الصالحين، وخلق فيها ما لا عينٌ رأَتْ، ولا أُذنٌ سمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ.

وكلُّ رزقٍ يَعِدُ اللهُ به عبادَهُ الصالحين فِي القرآن فغالبًا ما يُراد به الجَنَّةُ كقوله تعالى:

﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [سبأ: 4]

وقوله: ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [الحج: 58]

وقوله سبحانه:

﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ﴾ [الطلاق: 11]

فهو أحسنُ الرِّزقِ وأكملُه وأفضلُه وأكرمهُ، لا ينقطعُ ولا يزولُ ﴿ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ﴾ [ص: 54].

اللهم ارزْقنا جَنَّتَكَ ورِضْوانَك وأنتَ خَيْرُ الرَّازقين.

المعاني الإِيمانيَّةُ:

قال اللهُ تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58]

قال الحليميُّ: "وهو الرَّزَّاقُ رزقًا بعد رزقٍ، والمكثرُ الموسعُ له".

قال أبو سليمان: "فيما أُخبْرتُ عنه: الرَّزاقُ هو المتكفِّلُ بالرّزقِ، والقائمُ على كلّ نفسٍ بما يُقِيمُها مِن قُوتِها".

قال: "وكلُّ ما وصَل منه إليه مِن مباحٍ وغير مباح فهو رزق الله، على معنى أَنَّه قد جعل له قوتًا ومعاشًا: قال الله عز وجل:

﴿ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ ﴾ [ق: 10، 11]

وقال: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ [الذاريات: 22]، إلا أَنَّ الشَّيءَ إذا كان مأذونًا له فِي تناولِهِ فهو حلالٌ حُكْمًا، وما كان منه غَير مأذونٍ له فيه فهو حرامٌ حُكمًا، وجميعُ ذلك رِزْقٌ على ما بَيَّنَّاه"[32].

وعلى ذلك فيجبُ على كلِّ مسلمٍ أَنْ يعلَم أَنْ لا رازقَ ولا رَزَّاقَ إلا اللهُ تعالى على الإطلاقِ وَحْدَهُ، وغيرُه إِنْ رَزَقَ وأعطى فإنما يَرزُقُ مِنْ رزقِ الذي أعطى.

فَارْزُقْ مما رَزَقَك اللهُ يأتِك الخَلَفُ مِنَ الِله:

﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ [سبأ: 39]

ومهما دَرَّ عليك مِنَ الرزق الظاهرِ فوق القوتِ، فلا تَدَّخِرْهُ فِي مَخَادعِ البيوت، واخزُنْه فِي سرادقِ الملكوتِ يزدَدْ نماءً.

فما أَقبحَ بالمرءِ أَنْ يكونَ بطنُهُ مملوءًا، وأنه لا يَبْقَى له مِنَ الجوعِ دماءٌ، ثم إذا أَعْوَزَك الرزق فلا تَطْلُبْه بكثرة الحرصِ، فلن يَزيدَك فِي الرزقِ المقدّرِ إلا ما قَسمه لك وقَدَّر.

فاطلبْ منه أعلاه وأجلَّه، وأصْفاه وأحلَّه، قال صلى الله عليه وسلم

"إِنَ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي؛ أَنَّهُ لَا تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا الَله وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ"[33]

فإذا سلكْتَ هذه المذاهبَ، كنتَ معَلَّقًا بالرازقِ مِن كلِّ جانبٍ، وانتفعْتَ بالرِّزقِ وانتفعَ بك غيرُك، حيثُ لم يَنْقَبضْ عنهم خيرُك، وضُوعِفَ لك الرزقُ الباطنُ والظاهرُ، فِي المنزلِ الطاهرِ، فِي المقعدِ الصِّدْقِ عند الملِكِ القادر[34].

===================================

[1] أسماء الله الحسنى للرضواني (2/ 104 - 105).

[2] الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي (1/ 278)، ولسان العرب (10/ 115).

[3] المستطرف في كل فن مستظرف (2/ 230).

[4] شرح أسماء الله الحسنى للرازي (ص: 235)، وتفسير الأسماء للزجاج (ص: 38)، والمقصد الأسنى (ص: 79).

[5] حَلِّهِ: بفتح الحاء وكسرها لغتان، ومعناه وجوبه وحينه.

[6] مسلم في القدَر، باب بيان أن الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقص (4/ 2050) (2663).

[7] أسماء الله الحسنى للرضواني (2/ 94 - 95).

[8] لسان العرب (10/ 115).

[9] ابن ماجه في كتاب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة (2/ 725) (2144)، وانظر تصحيح الشيخ الألباني للحديث في صحيح الجامع حديث رقم (2742).

[10] انظر مسند الشهاب (2/ 185) (1151)، وانظر صحيح الجامع رقم (2085).

[11] مجموع الفتاوى (16/ 52)، وانظر في معنى الاسم أيضًا: الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 86).

[12] النهج الأسمى (1/ 193 - 203).

[13] الجامع لأحكام القرآن (17/ 56)، روح المعاني (27/ 24).

[14] جامع البيان (27/ 8).

[15] شأن الدعاء (ص: 54)، الاعتقاد (ص: 57).

ونقَله الأصبهاني (ورقة 18 ب)، إلى قوله: ولا وليًّا دون عدو، وزاد: ويرزق مَن عَبَدَه، ومَن عَبَد غَيرهُ، ومَن أطاعه، ومَن عصاه، والأغلب مِن المخلوق أنه يَرزق فإذا غضب منع.

[16] المنهاج (1/ 203)، وذكره ضمْن الأسماء التي تتبع إثبات التدبير له دون ما سواه، ونقَله البيهقي في الأسماء (ص: 66).

[17] النهاية (2/ 219)، وانظر: المقصد الأسنى (ص: 50).

[18] تيسير الكريم (5/ 302).

[19] جامع البيان (29/ 6).

[20] المصدر السابق.

[21] رواه البخاري (6615)، ومسلم (593) عن المغيرة بن شعبة.

[22] تفسير ابن كثير (3/ 420).

[23] رواه مسلم (2958، 2959)، ولفظه هنا في الموضع الأول دون قوله: "وما سوى ذلك..." فهو في الموضع الثاني مع اختلافٍ في أوَّله.

[24] الكتاب الأسنى (ورقة 326 ب – 327 أ).

[25] العقيدة الطحاوية (ص: 125).

[26] رواه مسلم (2577)، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى.

[27] رواه البخاري (6099، 7378)، ومسلم (2804).

[28] تفسير ابن كثير (3/ 38).

[29] الروايتان لمسلم (2564/ 33، 34) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[30] رواه الترمذي (2422)، والعقيلي في الضعفاء (3/ 46)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 253) من حديث عبد الحميد بن سليمان، عن أبي حازم، عن سهل مرفوعًا، وعبد الحميد ضعَّفَهُ غيرُ واحد ولكن للحديث طُرُق منها:

1- ما أخرجه الخطيب في التاريخ (4/ 92)، والقضاعي في مسند الشهاب رقم (1439) من حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا به.

2- ما أخرجه القضاعي في مسند الشهاب رقم (1440) من حديث محمد بن عمار، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا، وصالح صدوق اختلط، فالحديث صحيح لِطُرُقه، وانظر: السلسلة الصحيحة (686، 943).

[31] رواه مسلم (2858) عن المستورد بن شداد.

[32] الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 66).

[33] صحيح: أخرجه أبو نعيم في الحلية، عن أبي أمامة كما في الجامع الصغير (2273)، وقال الألباني في صحيح الجامع (2085): صحيح.

[34] الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي (1/ 284).

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ معنى اسم الله الرزاق

  • الإيمان بأسماء الله وصفاته

    الشيخ محمد صالح المنجد

    أيها المسلمون: من أصول عقيدتنا: الإيمان بأسماء الله وصفاته، وعدم التلاعب بها أو تحريفها، ومعرفة المعاني والتطبيق،

    01/06/2014 4009
  • أقوال السلف في اسم الله (الرزاق)

    فريق عمل الموقع

    أولًا: أقوال بعض الصحابة والتابعين في اسم الله (الرزاق):  1- عن عبد الله بن مسعود , رضي الله عنه قال: أقرأني

    26/02/2022 1358
  • التعريف باسم الله (الرزاق)

    فريق عمل الموقع

    الرزاق: من رَزَقَ فعّال للمبالغة. [اشتقاق أسماء الله الحسنى للزجاجي 1/ 194]. الرزق إباحة الانتفاع بالشيء على وجه

    26/02/2022 796
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day