الشبهات حول اسم الله (العالِم)
الشبهة الأولى:
يقول القائل: هل هناك فرق بين علم الله تعالى وعلم المخلوقات؟
الرد عليها:
الفرق بين علم الله تعالى وعلم المخلوقات: أن علم الله تعالى لم يسبقه جهل ولا يعتريه نقص أبدًا من نسيان {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، أو جهل، أو علم ببعض أمور الخلق وجهل بغيرها {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79]، كما لا يشغله علم عن علم.
أما علم المخلوقات قد سبق بجهل، كما ينصرف علمهم إلى نوع من المعلومات دون نوع، وقد يوجد ذلك في حال دون حال، وقد تعترضهم الآفات فيخلف علمهم الجهل والنسيان.
وعلم الله تعالى يختص بالغيب، ولا أحد من الغيب يعلمه، ومن زعم غير ذلك فقد كفر {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65].
الشبهة الثانية:
يقول القائل: يعلم علماء الفلك الآن أحوال الطقس وموعد سقوط الأمطار، كما يتعرف علماء الطب على جنس الجنين في داخل الرحم فبم يتميز علم الله؟
الرد عليها:
قال القرطبي: { العالِم }: أي هو عالم بما غاب عن الخلق، وبما شهدوه. فالغيب مصدر بمعنى الغائب. والشهادة مصدر بمعنى الشاهد، فنبه سبحانه على انفراده بعلم الغيب، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق، فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد، فأما أهل الطب الذين يستدلون بالأمارات والعلامات فإن قطعوا بذلك فهو كفر، وإن قالوا إنها تجربة تركوا وما هم عليه، ولم يقدح ذلك في الممدوح، فإن العادة يجوز انكسارها، والعلم لا يجوز تبدله. [الجامع لأحكام القرآن - تفسير القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ)، 9/289].
" مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله" [أخرجه البخاري].
فنقول أنه يمكن تقسيم العلم بالمستقبل إلى ثلاثة أقسام:
1- العلم بمستقبل الأشياء الموجودة في عالم الشهادة والخاضعة كلياً للسنن الكونية، وهذه يمكن العلم بمستقبل زمانها من قبل العلماء العارفين بسننها، كمعرفة وقت طلوع الشمس وغروبها، ووقت الكسوف والخسوف وغير ذلك، لعشرات بل ولمئات السنين وبدقة بالغة، قال تعالى: {الشمس والقمر بحسبان} وهذا القسم خارج نطاق الغيب الحقيقي، الذي لا يعلمه إلا الله، ومعرفة المستقبل فيه متاحة للبشر.
2- العلم بمستقبل الأشياء المعدومة التي لم توجد بعد في عالم الشهادة، هل ستوجد أصلاً أم لا، وبالتالي فمستقبلها تابع لها، وهذا القسم فقط هو الذي لا خلاف عليه عند العلماء والعقلاء، أن علمه عند الله وحده، وهو غيب حقيقي، يستحيل على البشر أن يعلموا منه شيئًا، لأن أصله ومستقبله غير خاضع لأي سنة كونية معهودة، وذلك لانعدام وجوده.
3- العلم بمستقبل أو مصير أشياء موجودة في عالم الشهادة، يخضع وجودها لسنن الكون والخلق، لكن لا يخضع مستقبلها ومصيرها لسنن مشهودة، في عالم الكون المنظور، ويتجلى هذا التعريف، ويتوافق مع قضايا مفاتح الغيب الخمس.
فهذه الدنيا الموجودة والمشهودة، لا يستطيع أحد أن يعلم يقينا زمن انتهائها وزوالها، وهو ما يعرف بتحديد وقت قيام الساعة؛ وهو المستقبل المحظور على الخلق معرفته، (ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله). حتى مع وجود علامات على قربها، لأن معرفة هذا الزمن لا تخضع لسنن مشهودة.
وهذه السحب التي تتكون في كل لحظة، وفق سنن الكون على مدار الليل والنهار، وتغطي مساحات شاسعة من غلاف الأرض، لا يستطيع أحد من الخلق أن يعلم يقينا مستقبل هذه السحب، قبل أن يكتمل تكونها، وتنعقد أسباب الإمطار منها، هل ستكون سحبا ممطرة أم لا؟ ومتى وأين ستمطر هذه السحب؟ هذا هو المستقبل المجهول للبشر؟ والذي لا يخضع للسنن المشهودة، بل هو في علم الله وحده (ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله)
وهذه الأنفس التي تملأ الأرض، وتخضع لسنن الخلق، لا تعلم يقينا كسبها من الخير والشر، وذلك مع كدها وحرصها على ذلك، فمستقبل الكسب محجوب ومجهول لها حتى في الزمن القريب، ولا يخضع هذا لسنن مشهودة، بل هو مما أختص الله وحده بعلمه {ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا}.
وكذلك لا تعلم يقينا هذه الأنفس الخاضعة لنواميس الحياة، موعد رحيلها من هذه الدنيا، فالمستقبل المحجوب والمجهول لها؛ هو موعد نهاية حياتها ووجودها بالموت مكانا وزمانا، وهو لا يخضع لسنن الكون المعهودة، وإنما علمه عند الله وحده {ولا تدري نفس بأي أرض تموت}.
وهذه النطف الأمشاج التي يخلق الله منها الإنسان، وقدر فيها كل مخلوق بإحكام وإبداع، ترى وتقرأ فيها اليوم في عالم الشهادة شبكة الصبغيات الدقيقة، وخريطة الجينات البالغة الدقة، والتي تخضع لسنن في الخلق ثابتة، وتعرف بها أحوال، وهيئات في مستقبل الخلق، ثم تتطور هذه النطفة إلى العلقة والمضغة، كل طور فيها خلق يختلف عن الآخر، وقد أصبحت هذه الأطوار مرئية مشهودة؛ بهيئاتها الكلية وتفاصيلها الجزئية، لكن يبقى مصير هذه الأطوار مجهولا، أيتم تخليقها وينشأ منها الخلق الآخر الذي تنفخ فيه الروح، أم تسقط أو تتلاشى هذه الأطوار في أغوار الرحم؟ هذا هو المستقبل المحجوب عن علم البشر، والذي لا يخضع لسنن مشهودة، ويستحيل على الخلق جميعا القطع به، بل علم ذلك خاضع لسنن غيبية لا يعلمها إلا الله (ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله).
إن مستقبل هذه الأشياء الخمسة ومصيرها، لا يخضع لسنن الشهادة ونواميس الحياة، وبالتالي يستحيل على البشر العلم بها، علما تدرك فيه الأشياء بكيفية اليقين، لا بالتخمين والظنون، ولا حتى الملائكة الموكلون بتنفيذ إرادة الله في الخلق يعرفون ذلك مسبقا. وسؤال الملك الموكل بالرحم ربه؛ عن مستقبل ومصير كل طور من أطوار الجنين الأولي هل ستتخلق أم لا خير دليل على ذلك.
روى البخاري ومسلم بسنده عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن النبي قال: " وكل الله بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضى خلقها، قال أي رب أذكر أم أنثى شقي أم سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه" . ويعضد ذلك أيضا تفسير بعض العلماء لقول الله تعالى: {إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا في الأَرْحَامِ} [لقمان: 34].
قال ابن كثير: (وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك، ومن يشاء الله من خلقه)، (وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى أو شقيا أو سعيدا، علم الملائكة الموكلون بذلك، ومن يشاء الله من خلقه).
قسم ابن كثير الأمر إلى قسمين: قسم يتعلق بالحدث قبل إيجاده، أي قبل تكون الغيث واكتمال كل أسباب الإمطار منه، وقبل تكون ما في الأرحام وبروزه لعالم الشهادة، هذا القدر هو الذي يدخل فيما اختص الله وحده يعلمه، وهو المقصود ابتداء في الآية، بنص الحديث الذي حددها بأنها مفاتح الغيب الخمس، وأما بعد بروزهما لعالم الشهادة، وخضوعهما لسنن التسخير والخلق، فهذا ليس من عالم الغيب بل من عالم الشهادة.
قال محمد رشيد رضا في المنار في قوله تعالى (ويعلم ما في الأرحام): (إذ معنى الحصر أن ما سيحدث في عالم الحيوان من التكوين في المستقبل هو من خزائن الغيب التي لا يحيط بما فيها إلا الله ومفاتح العلم بأي شيء منه عنده).
وقال الشيخ ناصر بن أحمد الراشد الرئيس العام لشؤون الحرمين سابقا: إن علم البشر متى يكون نزول المطر هو أمر مستحيل، ولا يرد على ذلك أن بعض الناس يدرك نزول المطر متى انعقدت أسبابه، بحيث يغلب على الظن ذلك، إذا نشأ السحاب الممطر عادة، وهبت الرياح التي يصاحب هبوبها نزول المطر، وتهيأ الجو المشبع بالرطوبة، والذي تعتمد عليه وعلى غيره من الأسباب الأخرى، الأرصاد الجوية في حدسها وظنونها. وما لم تنعقد هذه الأسباب فلا أحد يعلم متى ينزل المطر.
والخلاصة:
مفاتح الغيب هي: السنن أو الطرق الموصلة لاستكشاف الغيب الحقيقي المقصور علمه بكلياته وجزئياته على الله تعالى، أو هي خزائن الغيب، أو هما معا. ومفاتح الغيب الخمس محجوب علمها عن الخلق جميعا، ولا يعلمها علما ذاتيا إلا الله وحده. أما علم الله المحيط الشامل لعالم الشهادة، فليس من مفاتح الغيب الخمس.
غيض الأرحام هو هلاك الأجنة المبكر، أو ما يعرف طبيا بالإسقاط التلقائي للأجنة في أطوار خلقها المبكرة، أي في الأسابيع الثمانية الأولى بعد التلقيح، ويشمل الأجنة التي تبتلعها الأرحام أو تلفظها.
والعلم بغيض الأرحام يعني: أن العلم بمستقبل تخليق أطوار الأجنة الأولى، من طور إلى طور، هل هي هالكة أم مخلقة؟ غيب لا يعلمه إلا الله وحده؛ وهذا يعني أن مشيئة إنشاء إنسان جديد من عدمه، في علم الله وحده.
قضية الذكورة والأنوثة والتشوهات الخلقية للأجنة في بطون أمهاتها، ليست من مفاتح الغيب الخمس، بل هي من عالم الشهادة، والقطع فيها بالعلم من قبل الأطباء والخبراء ليس من الغيب الحقيقي، بل هي من الأشياء الخاضعة لسنن الاستكشاف، والذي أمرنا بالتعرف عليها. وعليه فالقول بتكفير وتفسيق من يجزم بالإخبار عن نوع الجنين في بطن أمه من الأطباء، قول غير صحيح.