هل نترك الأسباب؟
ليس معنى القول بأن أملنا في الله وحده أن نترك الأسباب المادية بدعوى عدم جدواها، بل المطلوب هو العكس، علينا أن نملأ كل فراغ يتاح أمامنا، ونتغلغل في كل القطاعات، ونجتهد غاية الاجتهاد في امتلاك أسباب القوة كما طالبنا الله عز وجل بذلك:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾
[الأنفال: ٦٠].
وعلى قدر اجتهادنا في الأخذ بما يتاح أمامنا من أسباب نكون قد حققنا شرطا مهما من شروط النصر والتغيير، مع الأخذ في الاعتبار أن الأسباب بعينها لن تحقق لنا النصر
﴿وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللهِ ﴾
[آل عمران : ١٢٦]
واجتهادنا في تحصيلها يأتي امتثالا لأمر الله، وتنفيذا لمقتضى سنته التي ربطت الأسباب بمسبباتها.. فمن يريد السفر من مكان إلى مكان آخر فعليه اتخاذ سبب ووسيلة يسافر من خلالها مهما كان صلاحه وتقواه.. هذه الوسيلة في حقيقتها لا تملك القدرة على السير بهذا الشخص وتوصيله إلى المكان الذي يريد فما هي إلا ستار وشكل تتنزل من خلاله القدرة الإلهية، والقرآن مليء بالآيات التي تقرر هذه الحقيقة، كقوله تعالى:
﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ المَشْحُونِ ﴾
[يس: ٤١]
وقوله:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾
[الإسراء: ٧٠]
وعندما عرض القرآن قصة نوح عليه السلام - والسفينة التي ظل فترة طويلة يصنعها بوحي من الله - عز وجل - ليستخدمها عند حدوث الطوفان فينجو بها هو ومن معه .. هذه السفينة يخبرنا الله - سبحانه وتعالى - بحقيقتها وأنها لا تملك قدرة ذاتية تمكنها من السير في البحر، فما هي إلا ألواح من الخشب، ومسامير من الحديد، أما الذي يسيرها ويمدها بالقدرة على الحركة فهو الله وحده لا شريك له.. ويقرر القرآن هذه الحقيقة بقوله تعالى:
﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً مِنْ كَانَ كُفِرَ﴾
[القمر: ١٤٠١٣]
فلابد من وجود السبب لتتنزل من خلاله القدرة الإلهية، وفي نفس الوقت فإن السبب لا قيمة له بدون المدد الإلهي:
﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى ﴾
[الأنفال : ١٧].
تأمل معي ما حدث للصحابة وقد نفد ماؤهم وأرادوا الوضوء والشرب، فذهبوا إلى رسول الله يخبرونه بذلك ، فماذا فعل عليه الصلاة والسلام ؟ طلب منهم إحضار ما تبقى عندهم من ماء، ثم وضع فيه أصابعه الشريفة فنبع من بينها الماء ليشرب الجميع ويتوضأ (١).
فهنا كان الماء القليل ستارا وشكلا تنزل من خلاله الفيض الإلهي.
إذن فعلاقتنا بالأسباب علاقة استجداء للمدد الإلهي الذي يتنزل من خلال وجودها، فالنوم سبب يتنزل من خلاله المدد الإلهي بالشعور بالراحة وتجديد النشاط، وشرب الماء سبب يتنزل من خلاله المدد الإلهي بالإرواء ... وهكذا .