فضل أهل الإيمان (23)
فضل أهل الإيمان :
27- أهل الإيمان يبتليهم الله بالمصائب ليطهرهم من المعايب:
فقد أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : " ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه، وولده، وماله، حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة " . (صحيح الجامع: 5815)
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد- رضي الله عنهما- أنهما سمعا رسول الله ﷺ يقول: " ما يصيب المؤمن من وصب (1) ولا نصب (2)، ولا سقم ولا حزن حتى يهمه (3) إلا كفر به من سيئاته " .
وأخرج ابن أبي الدنيا والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ :"وصب المؤمن كفارة لخطاياه" .
قال ابن عبد البر- رحمه الله- في "كتابه التمهيد: 23:26" الذنوب تكوها المصائب والآلام والأمراض والأسقام وهذا أمر مجمع عليه: أهـ.
وأخرج الإمـام أحمد والبزار عن جـابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ أنه سمع رسولَ الله ﷺ يقول: "لا يمرضُ مؤمنٌ ولا مؤمنةٌ ولا مسلمٌ ولا مسلمةٌ إلا حطَّ الله به خطيئتهُ " .
وأخرجه أيضا ابن حبان إلا أنه قال: "إلا حطَّ الله بذلك خطاياهُ كما تنحطُ الورقَةُ عن الشجرة" .
وأخرج الإمام أحمد عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما من شيء يُصيبُ المؤمنَ في جسده يؤذيهِ إلا كفر الله عنه من سيئاتهِ" . (صحيح الجامع: 5724)
فالله سبحانه وتعالى يبتلي المؤمن في الدنيا ليطهره من الذنوب والمعاصي والآثام فيوافيه يوم القيامة ولا ذنب عليه. كما قال النبي ﷺ في مسند الإمام أحمد بسند صحيح: " فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" .
وأما إذا أراد الله بعبده شراً أمسك عنه مواد التطهير: من بلاء في جسده أو ماله أو ولده... أو غير ذلك من ألوان البلاء، حتى يَرِد على الله يوم القيامة وقد أثقلت الذنوب كاهله .
وفي هذا يقول النبي ﷺ كما عند الترمذي بسند صحيح من حديث أنس رضي الله عنه : " إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة" . (صحيح الجامع: 308)
وكان بعض السلف يقول: " لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس " .
وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: " مثل المؤمن كمثل الخامة (4) من الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء، والفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء".
وعند البخاري أيضا من حديث عبد الله بن كعب عن أبيه رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ قال:" مثل المؤمن كالخامة من الزرع تُفيؤها (5) الريح مرة وتعدلها مرة، ومثل المنافق كالأرزة (6) لا تزال حتى يكون انجعافها (7) مرة واحدة" .
ومعنى الحديث: أن المؤمن حيث جاءه أمر الله انصاع له وأطاع، فإن وقع له خير فرح به وشكر، وإن وقع مكروه صبر ورجا فيه الخير والآجر إذا اندفع عنه اعتدل شاكراً.
والكافر لا يتفقد الله باختياره، بل يحصل له التيسير في الدنيا ليتعسر عليه الحال في الميعاد، حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمه، فيكون موته أشد عذاباً عليه، وأكثر ألماً في خروج نفسه .
وقيل: المعنى أن المؤمن يتلقى الأعراض الواقعة عليه لضعف حظه في الدنيا، فهو كأوائل الزرع شديد الميلان لضعف ساقه والكافر بخلاف ذلك، وقال النووي ـ رحمه الله ـ: قال العلماء:" معني الحديث أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله، وذلك مكفر لسيئاته، ورافع لدرجاته. وأما الكافر فقليلها، وإن وقع به شيء لم يكفر شيئاً من سيئاته، بل يأتي بها يوم القيامة كاملة" . (شرح صحيح مسلم: 17/158)
كما قال تعالى: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ﴿15﴾ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ . (هود: 15-16)
فالنبي ﷺ قال كما في صحيح مسلم: "وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها" ، فهؤلاء جازاهم الله أجور أعمالهم، فأعطاهم في الدنيا من الصحة والأمن والرزق والأولاد، ولم ينقصهم شيئاً من أجورهم لكن في الآخرة ليس لهم إلا النار.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في" الحسنة والسيئة صـ 327: " وما يصيب الإنسان إن كان يسرُّه فهو نعمة بينة، وإن كان يسوؤه فهو نعمة من جهة أنه يكفر خطاياه ويثاب بالصبر عليه، ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها ﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ . (البقرة: 216)
وقد قال في الحديث: "والله لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له". أهـ . ( أخرجه الإمام مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه )
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته ـ من رحمته به، ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه. فهذا من تمام رحمته به، لا من بخله عليه، كيف؟! وهو الجواد الماجد، الذي له الجواد كله، وجود جميع الخلائق في جنب جوده أقل من ذرة في جبال الدنيا ورمالها.
ومن رحمته ـ سبحانه ـ بعباده أن نغص عليهم الدنيا وكدرها، لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم" . (إغاثة اللهفان: 2/174)
وقال أيضا: " الرب ينعم على عبده بابتلائه، ويعطيه بحرمانه، ويصحه بسقمه، فلا يستوحش عبده من حالة تسوؤه أصلاً، إلا إذا كانت تغضبه عليه وتبعده منه" . (عدة الصابرين صـ 71)
وهذا الابتلاء كما جعله الله سبباَ لمحو سيئات المؤمن، فهو كذلك سبب لكتب الحسنات ورفع في الدرجات.
فقد أخرج الطبراني في الأوسط والحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "سمعت رسول الله ﷺ يقول: " ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله به عنه خطيئة، وكتب له حسنة، ورفع له درجة" . (قال الحافظ بن حجر في الفتح:3/105: سنده جيد)
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب" المرض والكفارات" بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: " صُدَاعُ الْمُؤْمِنِ، أو شَوْكَةٌ يَشْاكُهَا، أو شَيْءٌ يُؤْذِيهِ، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ دَرَجَةً، وَيُكَفِّرُ بِهَا عَنْهُ ذُنُوبَهُ" .
وأخرج الإمام مسلم عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ:"لا يصيب المؤمن شوكة فما فوقها؛ إلا نقص الله بها من خطيئته" وفي رواية: "إلا رفعه الله بها درجة، وحط الله عنه بها خطيئة".
وعند مسلم أيضا : "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، أو حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً" .
وأخرج الإمام أحمد وابن حبان عن عائشةرضي الله عنها : أن رسول الله ﷺ طرقه وجع فجعل يشتكي ويتقلب على فراشه، فقالت له عائشة: لو صنع هذا بعضنا لوجدت عليه؟ فقال النبي ﷺ:" إن الصالحين يشدد عليهم، وإنه لا يصيب مؤمناً نكبة من شوكة فما فوق ذلك إلا حطت عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة " . (الصحيحة: 1610)(صحيح الجامع: 1660)
- - - - - - - - - - - - - -
(1) الوصب: الوجع والألم.
(2) النصب: التعب.
(3) هكذا ضبطه القاضي وغيره وضبطه (يَهُمَه) بفتح الياء وضم الهاء أي يغمه وكلاهما في الصحيح.
(4)قال الخليل: الخامة: الزرع أول ما ينبت على ساق واحد. وقيل: هي القصبة اللينة من الزرع (شرح مسلم)
(5)تفيؤها: تميلها أو ترقدها.
(6)الأرزة: شجر بالشام يقال لثمره الصنوبر، وقيل شجر صلب معتدل لا يحركه هبوب الرياح.
(7)انجعافها: أي انقلاعها أو انكسارها من وسطها أو أسفلها.