فضل أهل الإيمان (32)


الشيخ ندا أبو أحمد

فضل أهل الإيمان :


34- أهل الإيمان يشفعون في أصحابهم الذين يدخلون النار حتى يخرجوهم منها:


فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أناسا في زمن رسول الله ﷺ قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله ﷺ " نعم، هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب؟ قالوا: لا. يا رسول الله، قال: ما تُضارون في رؤية الله- تبارك وتعالى- يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما (1) ، إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يتبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغُبَّرِ أهل الكتاب (2) ، فيدعي اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله فيقال كذبتم ما اتخذا الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار كأنها سراب (3) يحطم بعضها بعضا، فيتساقطون في النار، ثم يدعي النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا، قال فيشار إليهم ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا (4). فيتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال: فما تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم (5) ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا – مرتين أو ثلاثا – حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب (6) ، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم فيكشف عن ساق (7) ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أُذن له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة ( 8 ) ، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، ثم يضرب الجسر (9) على جهنم وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم، قيل يا رسول الله وما الجسر؟ قال: " دحض مزلة (10)، فيه خطاطيف وكلاليب وحسك (11). تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان، فيمر المؤمن كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد (12) الخيل والركاب، فناج مُسلَّم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم (13) ، حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالدي نفسي بيده ما منكم أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق (14) من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها من أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير (15) فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها مما أمرتنا أحدا، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا (16) ".


وكان أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فأقرئوا إن شئتم ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ﴾ ( النساء: 40).

فيقول الله تعالى: " شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة (17) من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط، قد عادوا حمما (18) ، فيلقيهم في نهر من أفواه الجنة (19) يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحية من حميل السيل (20) ، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر (21)، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض؟

فقالوا : يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية، قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم (22) يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله (23) الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدا ".


- - - - - - - - - - - - - - - -


(1) ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما معناه لا تضارون أصلا كما لا تضارون في رؤيتهما أصلا.

(2) وغبر أهل الكتاب: معناه بقاياهم. جمع غابر.

(3) كأنها سراب: السراب ما يتراءى للناس في الأرض القفر والقاع المستوى وسط النهار في الحر الشديد لا معا مثل الماء يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

(4) يحطم بعضها بعضا: معناه لشدة اتقادها وتلاطم أمواج لهبها والحطم الكسر والإهلاك، والحطمة اسم من أسماء النار لكونها تحطم ما يلقى فيها.

(5) فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم: معنى قولهم: اتضرع إلى الله تعالى في كشف هذه الشدة عنهم وأنهم لزموا طاعته سبحانه وتعالى وفارقوا في الدنيا الناس الذين زاغوا عن طاعته سبحانه من قراباتهم وغيرهم ممن كانوا يحتاجون في معايشهم ومصالح دنياهم إلى معاشرتهم للارتقاء بهم.

(6) ليكاد أن ينقلب: هكذا هو في الأصل بإثبات أن واثباتها مع كاد لغة كما أن حذفها مع عسى لغة، ومعنى ينقلب أي يرجع عن الصواب للامتحان الشديد الذي جرى.

(7) فيكشف عن ساق: ضبط يكشف فتح الياء وضمها. وهما صحيحان

( 8 ) ظهره طبقة واحدة: قال الهروي وغيره: الطبق فقار الظهر، أي صار فقارة واحدة كالصحيفة، فلا يقدر على السجود لله تعالى.

(9) ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة: الجسر بفتح الجيم وكسرها، لغتان مشهورتان: وهو الصراط، ومعنى تحل الشفاعة: بكسر الحاء، وقيل بضمها: أي تقع ويؤذن فيها.

(10) الدحض والمزلة بمعنى واحد وهو الموضع الذي تزل فيه الأقدام ولا تستقر ومنه دحضت الشمس أي مالت وحجة داحضة أي لا ثبات لها.

(11) خطاطيف وكلاليب وحسك: أما الخطاطيف فجمع خطاف والكلاليب بمعناه وأما الحسك فهو صلب من حديد.

(12) الأجاويد جمع أجواد وهو جمع جواد وهو الجيد الجرد من المطي، والركاب أي الأبل واحدتها راحلة من غير لفظها فهو عطف على الخيل والخيل جمع فرس من غير لفظه.

(13) فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم: معناه أنهم ثلاثة أقسام: قسم يسلم فلا يناله شيء أصلا وقسم يخدش ثم يرسل فيخلص وقسم يكدس ويلقى فيسقط في نار جهنم، قال في النهاية وتكدس الإنسان إذا دفع من ورائه فسقط، ويروى بالشين المعجمة من الكدش وهو السوق الشديد والكدش: الطرد والجرح أيضا.

(14) في استقصاء الحق: أي تحصيله من خصمه والمعتدى عليه.

(15) من خير: قال القاضي عياض رحمه الله: قيل معنى الخير هنا اليقين، قال والصحيح أن معناه شيء زائد على مجرد الإيمان لأن مجرد الإيمان الذي هو التصديق لا يتجزأ، وإنما يكون هذا التجزؤ لشيء زائد عليه من عمل صالح، أو ذكر خفي، أو عمل من أعمال القلب من شفقة على مسكين أو خوف من الله تعالى ونية صادقة، وقد قال النووي: إن التصديق يزيد ووافقه غيره من علماء أهل السنة، كما في شرح النووي وشرح الطحاوية.

(16) لم نذر فيها خير: هكذا هو خير بإسكان الياء أي صاحب الخير.

(17) فيقبض قبضة من النار: معناه يجمع جمعة.

(18) قد عادوا حمما: معنى عادوا صاروا وليس بلازم في عاد أن يصير إلى حالة كان عليها قبل ذلك، بل معناه صاروا، أما الحمم فهو الفحم وواحدته حممة كحطمة.

(19) في أفواه الجنة: جمع فوهة وهو جمع سمع من العرب على غير قياس، وأفواه الأزقة والأنهار أوائلها، قال صاحب المطالع كأن المراد في الحديث مفتتح من مسالك قصور الجنة ومنازلها.

(20) الحبة في حميل السيل: الحبة بالكسر، بذور البقول وحب الرياحين قيل هو نبت في الحشيش وحميل السيل هو ما يجئ به السيل من طين أو غثاء وغيره فعيل بمعنى مفعول، فإذا اتفقت فيه حبة واستقرت على شط مجرى السيل فإنها تنبت في يوم وليلة فشبة بها سرعة عود أبدانهم وأجسامهم إليهم بعد احراق النار لها.

(21) ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر: وما يكون منها إلى الظر يكون أبيض، أما يكون في الموضعين الأولين فتامة ليس لها خبر معناها ما يقع وأصيفر وأخيضر مرفوعان وأما يكون أبيض فيكون فيه ناقصة وأبيض منصوب وهو خبرها.

(22) الخواتم: جمع خاتم بفتح التاء وكسرها، قال صاحب التحرير: المراد بالخواتم هنا أشياء من ذهب أو غير ذلك تعلق في أعناقهم علامة فيعرفون بها، قال معنا ه تشبيه صفائهم وتلألئهم باللؤلؤ.

(23) هؤلاء عتقاء الله: أي يقولون هؤلاء عتقاء الله.




السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ فضل أهل الإيمان (32)

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day