إن الله تعالى جميل يحب الجمال
إن الله تعالى خلق الحياة على مقاييس الجمال الإلهية الباهرة، الساحرة! وأرسل الرسل بالجمال؛ ليتدين الناس على ذلك الوِزان وبتلك المقاييس! ولذلك قال النبي محمد سيد الأتقياء، وإمام المحبين:
(إن الله تعالى جميل يحب الجمال).
وفيه زيادة صحيحة:
(ويحب معالي الأخلاق ويكره سِفْسافَها)؛
مما يشير إلى أن الجمال مطلوب في أداء المسلم شكلاً ومضموناً، مبنى ومعنى، رسماً ووجدانا.
لقد كانت الآيات المذكورة قبل من سور النحل، والأنعام، وفاطر، توقظ الشعور الوجداني الإنساني؛ لينتبه إلى موان الخير والحسن في نعم الله؛ ولذلك كانت مقاطع الآيات – كلها تختم بصيغ التنبيه والاعتبار:
(إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون.. لقوم يعلقون.. لقوم يذّكرون.. ولعلكم تشكرون.. لعلكم تهتدون)!
بل بعضها كان صريحاً في الأمر بالنظر الفني إلى نوابض الجمال في الكون والطبيعة،
كما في قوله تعالى الوارد قبل: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
(الأنعام: 99).
ذلك أن تتبع جداول الجمال يقود إلى منبعه العظيم، حيث الحق والخير الصافي الرقراق. هنالك إذن يعب المتدينون من موارد الدين ما يتزينون به لربهم عبادة وسلوكاً، فإذا القلوب تنبض بجمال الإيمان، حباً لا يخبو أبداً! وما ألطف قوله تعالى في هذا:
{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}
(الحجرات: 7)..
أن تحب الإيمان يعني أن الدين سكن هواك، فتعلقتَ به كما يتعلق المتيم بمحبوبه! والحب لا يسكن قلباً إلا إذا شاهد مباهج الجمال التي تسحره وتأخذ بمجامعه! ولذلك! قال:
{وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}
فإذن كيف يصدر عن مسلم هذا شأنه قُبْحٌ في التعبير أو قبح في السلوك؟.. إذن يكون خارج معنى (العبادة) حينئذ! وخارج مقاييس الدين! إذ الله لا يقبل إلا جميلاً ولا يقبل إلا طيباً!
صدقت يا رسول الله: (إن الله تعالى جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق ويكره سِفْسَافَهَا!).
فليكن الدين إذن: سيراً إلى الله في مواكب الجمال!
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ }
(الأعراف: 31 - 33)
وإنها للطافة كريمة أن يجمع الحق سبحانه في مفهوم الدين، من خلال هذه الكلمات النورانية بين جمالين: جمال الدين وجمال الدنيا:
{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}!
ليكون ذلك كله هو صفة المسلم.
ولقد حرص الرسول على تربية صحابته الكرام على كل هذه المعاني.. وكيف لا؟ وهو أول من انبهر بجمال ربه وجلاله؛ فأحبه حتى درجة الخلة! قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه يوما:
(لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت ابن أبي قحافة [أبا بكر] خليلاً. ولكن صاحبكم خليل الله!)
وصح ذلك عنه في سياق آخر
قال عليه الصلاة والسلام: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل! فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً! ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً أبا بكر خليلاً! ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد! إني أنهاكم عن ذلك!)..
وكان يعلمهم كيفية سلوك طريق المحبة بعبارات وإشارات شتى، ما تزال تنبض بالنور إلى يومنا هذا فانظر إن شئت، إلى قوله:
(أنتم الغُرُّ الْمُحَجَّلونَ يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله!)
والغرة بياض في ناصية الحصان، والتحجيل بياض في يديه. فتلك سيم الجمال في وجوه المحبين وأطرافهم، يوم يرِدُون على المصطفى، وهي سيم (ليست لأحد من الأمم!)، بها يعرفون في كثرة الخلائق يوم القيامة، كالدر المتناثر في دجنة الفضاء!.. هذه ومضة الإبراق النبوي تبشر برشح الأنوار على أطراف المتوضئين الساجدين، رشحا لا يذبل وميضه أبداً! فإذا النبي الكريم يميز جمال المحبين وسط الزحام واحدا واحداً..!
- قال صلى الله عليه وسلم - (ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة! - قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق؟ - قال: أرأيت لو دخلتَ صُبْرَةً [محجراً] فيها خيلٌ دُهْمٌ، بُهْمٌ، وفيها فرَسٌ أغَرُّ مُحَجَّلٌ، أما كنت تعرفه منها؟ - قالوا: بلى. - قال: فإن أمتي يومئذ عُرٌّ من السجود، مُحَجَّلون من الوضوء!)
(إن الله تعالى رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف.)
وقوله: (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا..!)
(إن الله كتب الإحسان على كل شيء!..)
فأما الحكمة: فمعناها – هنا – أنه ما من (جمال) إلا وله هدف وجودي، ووظيفة حيوية، يؤديها بذلك الاعتبار. ذلك أنه ما من جمال في هذا الكون إلا وهو رسالة ناطقة بمعنى معين، هو حكمة وجوده ومغزى جماليته. فليس جميلاً لذاته فحسب، بل هو جميل لغيره أيضاً. فعند التأمل في كل تجليات الجمال في الطبيعة، تجد أنها تؤدي وظائف أخرى هي سر جماليتها. من مثل الأهداف التناسلية الضرورية لاستمرار الحياة في الكائنات من الإنسان، والحيوان، والطيور، والنبات... إلخ. ففي هذا السياق تقع استعراضات الجمال الخارق مما وهبه الله للكائن الحي؛ لإنتاج الشعور بالجمالية مما ينتج عنه أروع التعابير اللغوية أو الرمزية. على جميع المستويات البشرية والحيوانية والطبيعية عموماً. كل على درجة طبقته الفطرية من الوعي بالحياة والوجود الخِلقي. وما ذلك كله في نهاية المطاف إلا ضرباً من قوانين التوازن في الحياة، واستقرار الموجودات والخلائق، تماما كما هو دور قانون الجاذبية في استقرار الحياة الأرضية، وتوازن الأجرام والكواكب في الفضاء فالإحساس الجمالي – بما فيه من عواطف جياشة لدى الإنسان مثلاً – ما هو إلا وسيلة وجودية لاستمراره وتوازنه.
قال تعالى: {وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
(الروم: 20-21).
ونفس الحقيقة الجمالية التي نراها في الطبيعة والجبال والبحار والنجوم.. إلخ؛ ما هي – رغم التصريح القرآني بجماليتها في مقاصد الخلق – إلا مخلوقات تؤدي وظائف في سياق التدبير الإلهي للكون؛ خلقاً وتقديراً ورعاية. ومن ذلك قوله تعالى على سبيل المثال:
{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}
(البقرة: 189).
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
(يونس: 5)
مشيراً بذلك إلى أن وظيفة الأقمار والأفلاك إنما هي إنتاج مفهوم الزمان؛ لتنظيم الحياة الكونية والإنسانية في أمور المعاش والمعاد معاً، أي مجال العادات والعبادات على السواء. وكذلك ما ذكره الله من الوظيفة الجيولوجية والتسخيرية للجبال والأنهار والمسالك،
في مثل قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}
(النحل: 15-16).
فكل المشاهد الجميلة في الحياة والكون – كما عرضها القرآن الكريم – لا تخرج عن هذا القانون الكلي، من حكمة الوجود ووظيفة الخلق.