تحدثنا في المقال السابق عن أن عظمة العمل البطولي ليست في نجاحه حيث أنه غالبا ما يكون غير مثمر ولا في معقوليته لأنه عادة ما يكون غير معقول .. لابد أن يكون وجود عالم آخر ممكنا فنحن لا نستطيع أن نعتبر الأبطال المأساويين منهزمين بل منتصرين وطبعا من الواضح أنهم ليسوا منتصرين في هذا العالم .. فهل للوجود الإنساني معنى آخر .. معنى مختلف عن هذا المعنى النسبي المحدود ..
إن الأخلاق كظاهرة واقعية في الحياة الإنسانية لا يمكن تفسيرها تفسيرا عقليا ولعل في هذا الحجة الأولى والعملية للدين .. فالسلوك الأخلاقي والتضحية والمُثُل العليا إما أنها لا معنى لها وإما أن لها معنى في وجود الله .. وهذا يُفهم منه قول نيتشه حين قال :- ( إذا لم يكن الله موجودا فلا وجود للإنسان .)
والناس يتصرفون بشكل مختلف بعضهم مع بعض ولكنهم يتحدثون دائما بطريقة واحدة عن العدل والحق والصدق والحرية والقيم العليا بل وتظاهر الفاسدين بالأخلاق والتخفي تحت قناع أخلاقي كل هذا يؤكد حقيقة الأخلاق .
إن النفاق وهو زيف أخلاقي يبرهن على قيمة الأخلاق الصحيحة مثلما تفعل النقود المزيفة بالنسبة للنقود القانونية الدائمة .. النفاق برهان على أن كل انسان يتوقع أو يتطلب سلوكا اخلاقيا من جميع الناس الآخرين .
النية والإرادة والتمني :-
يوجد في عالمنا الجواني عالم قوامه الحُرية والإختيارات المتساوية وهي حرية كاملة لا تحدها حدود طبيعية أو مادية .. وكل انسان يتوق أن يحيا في اتساق مع ضميره وقِلة هي التي تنجح
فالرغبة قد لا تتحقق ولكنها حقيقة في عالم قلوبنا وهي واقعة في حياتنا الجوانية في المقابل ربما وقع الفعل بالخطأ ولم ننوي أن نفعله إلا أنه حدث كاملا في عالم الطبيعة .. هذه العلاقة بين النية والفعل تعكس التناقض المبدئي بين الإنسان والعالم .
هنا يثور سؤال هام :- هل نحكم على الأعمال بالنوايا التي انطوت عليها أم بالنتائج التي ترتبت عليها ؟ الموقف الأول هو رسالة كل دين والموقف الثاني هو شعار كل أيديولوجية مادية ..... ومن هنا سيبدأ الصراع وستبدأ المنافسة أيهما الحق وأيهما المزيف ..!!
يقرر كل دين أن هناك مركزا جوانيا في كل انسان يختلف عن بقية العالم وهو أعمق ما في هذا الكائن الإنساني ألا وهو النفس
والنية خطوة إلى أعماق الذات ففي العالم الجواني هناك أفعال كثيرة قد تحققت وانتهت وبدون الرجوع إلى العالم الجواني يصبح عمل الإنسان عملا آليا مجرد صدفة في العالم البراني الزائل
ويؤكد هيوم ذلك قائلا :- ( إن الفعل ليس في ذاته قيمة خلقية ولي نعرف القيمة الخلقية لإنسان علينا أن ننظر في داخله والأفعال فقط رموز على الحياة الجوانية -1-.) .. وباختصار فالنية جميعها مِلك لنا بينما يتوقف الاداء على معايير مادية مختلفة .
لجان التقصي وجمع الأدلة والتحقيق والشهود والبحث في ملابسات القضية كل هذه الأمور تقوم بها العدالة مع أن الجناية قد اُرتكبت والفاعل معروف لكن فقط نريد أن نعرف هل فعلها عن عمد وسبق إصرار أم لا هنا تكمن قيمة النية وتنتصر بقوامها الجواني على مادية العالم البراني انسبي فالجناية تمت وانتهت لكن هذا في العالم البراني ويبقى العالم الجواني هو العُمدة والأساس في الحُكم وهكذا تنتهي الجولة بانتصار العالم الجواني الحقيقي على العالم البراني النسبي وهذا بشهادة العدالة !!
والإنسان خَيِّر ما أراد أن يكون خيِّرا وفي حدود فهمه للخير .. والإنسان شرير ما أراد أن يفعل الشر حتى ولو بدا فيه خير للآخرين فمدار القضية في عالم جواني روحي وفي هذا العالم يقف الإنسان وحده تماما وهو حر شأنه كشأن الآخرين وبهذا يكون سارتر قد اختصر لنا الطريق حين قال :- ( ليس في الجحيم ضحايا أبرياء ولا مذنبين أبرياء .-2- )
بواسطة التعليم يمكن تشكيل المواطن الذي يُطيع القانون ليس بوازع من الإحترام بل بدافع من الخوف أو العادة وأشهر مدارس العالم في التربية وهي المدرسة الإنجليزية قبل الخمسينات أخرجت أعظم النبلاء لكن نبلاء داخل المملكة فقط همج ورعاع خارجها ( ولا ننسى الفيلق الهندي الذي ألقى به الجيش البريطاني في صحراء العلمين ليفجر الألغام فماتوا عن آخرهم والصور تظهر البريطاني وهو يصعد على ظهر الهندي كي يمتطي جواده ) فالفضيلة والرذيلة ليستا منتجات تُغلف وتُعبأ ..
واليقظة الروحية والهداية حركات تتم في أعماق الروح وتتم في ظروف متباينة تماما لا علاقة لها بالصدفة او الشرطية أو الوقائع .. إن المساحة الجوانية للإنسان شاسعة تكاد تكون لا نهائية فهو قادر على أبشع أنواع الجرائم وعلى أنبل التضحيات .
وبينما يوجد ملحدون على أخلاق لكن لا يوجد إلحاد أخلاقي والسبب هو أن أخلاقيات اللاديني ترجع في مصدرها إلى الدين .. دين ظهر في الماضي ثم اختفى في عالم النسيان ولكنه ترك بصماته قوية على تصرفات الإنسان وردود فعله فدفء الليل مصدره شمس النهار فما بالنا بآلاف السنين من التأثير الديني على الأمم وحتى المجتمعات التي أعلنت فصل الدين عن الدولة اعتمدت ضمنا على وجود الموروث الديني .
يُعتبر الإخصاب الصناعي والقتل الرحيم -3- جريمة ضد الإنسانية لأن فيهما حطا بالإنسان إلى مستوى الأشياء ولكن العلم يعتبر هذا شيئا عاديا بل ولا تُوجد حجة علمية تمنع من ذلك فالهوة كاملة والمقارنة مزعجة ..
الحيوان بريء من الناحية الأخلاقية .. لكن الإنسان إما أن يكون خيِّر أو يكون شرير .. لا يوجد إنسان بريء من الناحية الأخلاقية حتى ولو أراد أن يكون كذلك فهو إما خيِّر أو شرير وهنا تكمن قيمة التكليف على الأرض وأننا مُكلفون ولسنا حيوانات .
----------------------------------------
المراجع للإستزادة :- كتـاب الإسلام بين الشرق والغرب .. تأليف:- علي عزت بيجوفيتش .. ترجمة :- محمد يوسف عدس .. مؤسسة بافاريـا
1- david hume treatise on human nature
2- jean paul sarter huis clos in theatre
3- القتل الرحيم هو قتل من يشكو مرض عضال حتى يرتاح