الإشراق الثالث: في جمالية العباد - المشهد الأول: في جمالية (الانتساب) التعبدي
العبادة: هي عنوان الجمال في الإسلام، وشعار المحبة. وإذا أحب الله الإنسان خاطبه بلفظ: (عبدي) أو (عبادي)!.. فنسبه إليه تعالى نسبة خصوص وإضافة!
وقد سبق أن معنى العبودية دال على خضوع وانقياد، في غير سخط ولا إكراه، ولكنه خضوع المحب الرَّضِيِّ! من هنا لم تكن الأعمال لترتقي إلى مستوى العبادة حقيقة إلا إذا أداها العبد برضاه! ولو كانت هذه الأعمال من أركان الإسلام، من صلاة وصيام وزكاة وحج. وقد ذكر العلماء أن الغني إذا امتنع عن أداء الزكاة، فقَوَّمَ السلطان عليه ماله وانتزع منه مقاديرها وصرفها في وجودها، فإن ذلك يسقط عنه حق الله؛ لأن حق الله في العمل إنما هو الشعور بالتعبد. وهو معنى الرضى والمحبة الي يُخالط قلب العامل عند الدخول في عمله وهذا ما لم يحصل بالنسبة لهذا الممتنع عن أداء الزكاة!
ومن هنا كانت حقيقة العبادة شعوراً وجدانياً قبل أن تكون أعمالاً مادياً! وكانت إحساسا بحب من يوجخ إليه العمل وهو الله تعالى، لا (ضريبة) يؤديها المرء وهو كاره!
ولذلك وصفت أعمال بأنها لا تكون إلا الله! مثل الصوم. على نحو ما جاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له؛ إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)؛ وذلك لما للإخلاص في هذه العبادة من نصيب! ولما للصدق والرضى فيها من أساس في النية الباطنة! فما يمنع العبد أن يغلق عليه الأبواب ويفطر سراً؛ إلا أن يكون محباً راضياً، راجياً ما عند الله حقاً؟
إن العبادة (رغبة) قبل أن تكون (رهبة)!
{لَا إكْرَاهَ في الدِّينِ}
(البقرة:255)
أما (الخوف) المذكور مع (الرجاء) في سياق التعبد فله مدلول آخر، سوف نقف عليه بإذن الله. ومن هنا كان وصف الإنسان بأنه (عبد) من أحب الأسماء والصفات الإيمانية إلى الله، ومن أحسنها في تسمية الإنسان، كما ورد في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن أحب إسمائكم عند الله: عبد الله، وعبد الرحمن)؛ وذلك لأن هذين الاسمين فيهما نسبة العبد إلى اسم الجلالة (الله)، وإلى أعظم صفة لله عز وجل (الرحمن):
{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى}
(الإسراء: 109)
وفي ذلك ما فيه من شرف الانتساب التعبدي لله الواحد القهار.
وبهذا المعنى استُعْمِلَ مصطلح (الانتساب الإيماني) أو (التعبدي) في الفكر الإسلامي؛ للدالة على خصوص استناد العبد إلى الله في كل أمره، وما يجده في ذلك من أذواق وجمال.
ولعل الأستاذ بديع الزمان النورسي – رحمه الله – هو أول من استعمله بهذا الوضوح الاصطلاحي، في سياق تجديد الفكر التربوي الإسلامي. إذْ كَشَفَ النقاب بقوة عن مشاهده الجميلة! فرسم بذلك لوحة وجدانية خالدة، كلما طالعتَ أنوارَها تَدَفَّقَتْ بالأسرار!
ذلك أن (المسلم عند النورسي لم يعد – باعتباره عبداً لله – مجردَ اسْمٍ عَلَمٍ ينادَى، أي: (عبد الله) أو (عبد الرحمان)، وإنما هو صاحب وظيفة مستنبطة من التفكر الخفي، والتدبر المَلِيِّ؛ لطبيعة العلاقة بين المضاف والمضاف إليه، في اسم (عبد الله) الذي هو اسم وظيفي – لا عَلَمِي – لكل مسلم حق. إن الإضافة النحوية لها دلالة عظيمة، على مستوى المعاني بالقصد البلاغي والإيماني معاً. أعني من حيث إنها تفيد اختصاص المضاف إليه بالمضاف، وتفرده به، على سبيل (الامتلاك). وكذا اختصاص المضاف إليه، على سبيل (الاستناد) والانتماء.
وهنا تكمن خطورة المصطلح: (الانتساب)؛ لأنه تصور لعلاقة المطلق بالنسبي وما يكتسبه هذا من ذاك! فعلاوة على دقة العلاقة بين مفهومين لا يجمعهما في المنطق إلا معنى التضاد؛ بينما هما هنا يلتقيان في المعنى الإسلامي؛ في التناسب الجميل المستفاد من علاقة العبادة، وما تحمله من ظلال روحية هادئة. قلت: علاوة على ذلك كله فإن المصطلح المدروس يصور بأدق ما يكون التصوير الرقي الإنساني، في مدارج الإيمان، حتى يكون أهلاً لمقام العطف الرباني والتضييف الرحماني.
وإني لأحسب أن تجديد التدين في المجتمع الإسلامي، لو أنه سعى هذا المسعى القائم على تحقيق معنى (العبودية)، حيث كانت الإضافة فيها إلى الرحمن نقطة استناد؛ لكان له اليوم شأن آخر! إذ يمنح العبد معنى القوة والمنعة والحياة،
كما في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً}
(الإسراء: 65).
فباء الضمير: (المضاف إليه) الدال على الذات الإلهية، يخص المضاف (عباد) بخصوص (الانتساب) الذي يكتسب منه (العبد) شرف النسبة إلى الملك العظيم رب السموات والأرض. فذلك ما عبر عنه الأستاذ النورسي بــ(الانتساب الإيماني)، كما في قوله يخاطب المؤمن: "إنك تنتسب بهوية الانتساب الإيماني إلى سلطان عظيم ذي قدرة مطلقة"، وقوله أيضا: "إن نور الإيمان الذي بسط ذلك الانتساب والعبدية هو الذي يجعل النمل يغلب فرعونا؛ بقوة ذلك الانتساب!
وبهذا المعنى فسَّرَ – رحمه الله – سِر بدء الأعمال كلها في الإسلام بــ(بسم الله الرحمن الرحيم). يقول: "إن الذي يتحرك ويسكن، ويصبح ويمشي بهذه الكلمة: (بسم الله) كمن انخرط في الجندية، يتصرف باسم الدولة، ولا يخاف أحداً، حيث إنه يتكلم باسم القانون، وباسم الدولة، فينجز الأعمال ويثبت أمام كل شيء". ويقول في بيان أوضح" إذا انتسب أحد إلى السلطان بالجندية أو بالوظيفة الحكومية، فإنخ يتمكن أن ينجز من الأمور، والأعمال أضعاف ما يمكنه إنجازه بقدرته الشخصية، وذلك بقوة ذلك الانتساب السلطاني". فهذا التشبيه البليغ مقصود للدلالة على الطبيعة الوظيفية، للخدمة التعبدية التي بها فقط ينال المسلم شرف الانتساب الإيماني، ذلك أنه – كما يقول رحمه الله – "يرقى إلى مقام الضيف الكريم في هذا الكون، وإلى مقام الموظف المرموق فيه، رغم أنه ضئيل وصغير بل هو معدوم، وذلك بسموه إلى مرتبة خطاب (إياك نعبد): أي انتسابه لمالك يوم الدين؛ ولسلطان الأزل والأبد".
ومن هنا كان الإيمانُ المُبَلِّغُ إلى مقام الانتساب انخراطاً وظيفياً في حركة الجمال حيث عمل النورسي على تحسيس طلابه بالذوق الانتمائي للإسلام، وتجديد مفهوم الصفة الإسلامية التي أبلتها العادات الاجتماعية، وطمستها الظلمات العلمانية الزاحفة!)
ثم إن الناظر في النصوص الشرعية المتضمنة لمفهوم (الانتساب) في القرآن الكريم والسنة النبوية؛ يجد أن لله – عز وجل – في مناداة الإنسان وتسميته باعتبار (النسبة) ثلاثة أحوال:
الأولى أن ينسبه إلى جِبِلتِه وطبيعة الخلقية، فيسميه (الإنسان). والثانية أن ينسبه إلى أبيه؛ فيسميه (ابن آدم، وبني آدم). والثالثة أن ينسبه إليه تعالى فيسميه (عبداً، أو عبدي أو عبادي). ووحدها هذه النسبة الأخيرة تكون في سياق المحبة الإلهية العالية للعباد. فلا يذكر الإنسان بوصفه عبداً إلا للدلالة على حب الله له! إذ العبودية محبة متبادلة بين الرب الأعلى والمخلوق الأدنى!
ولبيان تفرد وصف الناس (بالعباد) بمعاني المحبة والتقريب، نذكر خلاصة مركزة عن كل من التسمية (بالإنسان)، والمناداة (ببني آدم):
ففي الأولى يسمى الله الإنسان (إنساناً) في سياق الابتلاء، وتحميله المسؤولية والأمانة! وهي عبارة ذات وقع حيادي على نفس المتلقي والقارئ للقرآن. ولذلك كانت أوضح الآيات في هذا المعنى
قول الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}
(الأحزاب: 72)
. فبقيت عبارة (الإنسان) في القرآن محملة بهذه الدلالة، ومشحونة بهذا الإيحاء. إنه إذن صاحب أمانة! تكليف واستخلاف. ولا أمانة إلا وهي تلقي على صاحبها تبعات كبرى. أقل ما فيها المتابعة والمحاسبة!
ومن هنا كان بتحمله الأمانة ظلوما لنفسه، جهولاً بخطورة ما تحمل وتقلد! فكان الحكم الابتدائي عليه بالخسران؛ لأنه راهن على شيء أكبر من حجمه! فلا ينجو من حيث هو (إنسان) إلا على سبيل الاستثناء!
{وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
(العصر).
وهو استثناء ثقيل يحمل – بعد الإيمان والعمل الصالح – شروطاً ثقيلة: التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وتلك هي خلاصة الأمانة! فالإنسان إذن مخلوق مغلول إلى التزامه، مرتهن بقضيته:
{وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً}
(الإسراء: 13)
. {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}
(القيامة: 36).
بل هو ملزم بالسير الدائم إلى ربه، سير تتخله المشاق والصعاب؛ لأنه يشق طريقاً تخالف ما تشتهيه نفسه البشرية، من دَعَةٍ وملذات دنيوية، ورغبات حيوانية؛ ولذلك عبر الله عز وجل عن هذا المعنى بــ(الكدح). في ذلك ما فيه من الإيحاء بمشقة السير، ووعورة الطريق! قال سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}
(الانشقاق:6).
ولم يكن ابتلاء الإنسان مهدداً بالخسران؛ إلا لأنه ارتبط ابتلاؤه هذا بطبيعته الطينية، التي تشده إلى الأرض وإلى علائق التراب، بينما غاية (ابتلائه) أن يرتقي إلى السماء! فأعظم به من امتحان عسير!
قال عز وجل: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ}
(الإنسان:2).
وما أدق تعبير الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في السياق، قال: (محنة البشر أنهم مكلفون بالارتقاء إلى الملأ الأعلى، على حين أنهم خلقوا من حمأ مسنون) ولذلك وجدنا لفظ (الإنسان) يعبر به في القرآن للدلالة على هذا المخلوق من نطفة أمشاج للابتلاء. فكانت اللآيات بمساقاتها تشير إلى أنه كلما انقَضَّتْ عليه طبيعته الطينية، استجاب لأهوائه وشهواته!
ولذلك كانت له في القرآن الكريم – بهذا الاعتبار – صفات وأحوال كلها تدور حول هذا المعنى:
يقول عز وجل: {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}
(إبراهيم: 34)
وقال سبحانه: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}
(النحل: 4)
وكذا قوله سبحانه: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}
(المعارج: 19 -21) إ
نها إذن؛ صفات مرتبطة بالخلق والطبيعة الجبلية! ولذا كان التعبير عنها في كثير من الآيات بلفظ (كان) للدلالة على الثبات والاستمرار كما في التعبير بها عن صفات الله عز وجل في القرآن، وذلك نحو:
{وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً}
(الإسراء: 11)،
{وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً}
(الإسراء: 67)
، {وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً}
(الإسراء: 100)،
{وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}
(الكهف: 54).
ويلحق بها معنى الشرط وجوابه،
كما في قوله تعالى {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً}
(الإسراء: 83)
إنه مخلوق مجبول على رغباته، وطلب شهواته التي تقوده إلى الفجور، والظلم والطغيان:
{كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى}
(العلق: 6).
هذا هو الإنسان!
تعبير لا يوحي بالأنس والطمأنينة والسلام وإنما يوحي بالتكليف والحساب!
وأما الثانية فهي نداء الله عباده بتعبير (بني آدم)، وهو قريب في الدلالة من لفظ (الإنسان). بل إن بينهما تداخلا واشتراكاً؛ لأنه إذ ينسب إلى أبيه آدم يحيل على خصائص (الآدمية). وآدم هو ذلك المخلوق من طين، المنفوخ فيه من روح رب العالمين. إلا أن الإيحاء هنا لا يركز على جانب الأمانة، والمسؤولية، والتكليف؛ بقدر ما يركز على جانب واحد من ذلك كله؛ ظاهر على كل الصفات المضمرة في (الآدمية)، المشاركة للفظ (الإنسان). وهذا الوصف الظاهر البارز في النداء (ببني آدم) هو: ضعف العزيمة والنسيان! وهو مأخوذ من قول الله عز وجل:
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}
(طه:115)
. ولذلك كان النداء (ببني آدم) دالا على معنى التذكير والتنبيه! إذ تعلق بمخلوق شأنه العام هو النسيان وضعف العزيمة.
قال تعالى مذكراً: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}
(يس:60).
وهذا العهد هو المذكور في قوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءادَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}
(الأعراف: 172).
وهذا سياق دال على ما نحن فيه من تعرض (الآدمي) للنسيان والغفلة. والتقرير القرآني هنا بإشهاد بني آدم على أنفسهم دال على أنهم سينكرون العهد، وتضعف عزيمتهم عنه، وينسونه. وذلك الذي حصل! فلا بد إذن من إشهادهم على أنفسهم إشهاد فطرة! ومن هنا لما عبد الناس الشيطان قال تعالى مذكراً ومنكراً:
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}
(يس: 60)!
وهو التنبيه الذي تكرر على سبيل التحذير
في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ}
(الأعراف:27)
إنه تذكير للإنسان (بآدميته):
{كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ!}.
وكل ما عبر فيه بوصف (الآدمية) والنسبة إلى الأب الأول، ملحق بهذا المعنى، ولو جاء في سياق التكليف الجزئي، فإنه يحمل في داخله التنبيه إلى خاصية النسيان، وضعف العزيمة، والتحذير منها،
كما في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
(الأعراف: 35-36).
أنه تعبير يحمل في دلالته ذلك الإيحاء الأول بالتذكير بالعهد؛ أن تخرمه العزائم الضعيفة، والتنبيه من الغفلة والنسيان أن تحاصره الآدمية!
وقد تحيل عبارة (ابن آدم) على معنى (الإنسان) من حيث هو مخلوق على جبلة طينية شرهة! وقد أسلفنا أن بين العبارتين اشتراكاً. وعلى هذا المجرى جرى كثير من الأحاديث النبوية التي تضمنت هذا التعبير (ابن آدم). وذلك نحو قوله صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانيا! ولو كان له واديان لابتغي لهما ثالثاً! ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب! ويتوب الله على من تاب). وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن ابن آدم إن أصابه حَرٌّ قال: حَسِّ! وإن أصابه بَرْدٌ قال: حَسِّ!) وعبارة (حَسِّ) اسم فعل مضارع بمعنى: (أتضجر!).
وهذان الحديثان إنما هما ترجمة لما ورد في القرآن عن (الإنسان) في مثل قوله تعالى عن المعنى الأول:
{إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}
(العاديات: 6-8)
وكذا قوله سبحانه: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً}
(الفجر: 19-20)
. وقوله سبحانه عن المعنى الثاني: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}
(المعارج: 19-21).
ويتفرد النداء الإلهي والتعبير القرآني بوصف الناس (بالعبادة)؛ للدلالة على الرضى، والحب، والإشفاق، وكل المعاني الراجعة إلى صفات الله الرحمن الرحيم الودود الغفور، وذلك لما للإنسان بوصفه (عبداً) عند الله من مقام وقرب! وإنما العبد: من انقاد قلبه لربه رغباً ورهباً، وخضعت جوارحه لمولاه طاعة وحباً! وتلك هي الصفة التي جاء الدين لإسباغها على الإنسان؛ فيرقيه إلى أعلى منازل العبودية. وذلك أساس مقتضى شهادة: (لا إله إلا الله) كما تقدم. فكأن الدين كل الدين إنما هو إعطاء صفة (عبد) لهذا المخلوق: الإنسان! أو كما قال الشاطبي رحمه الله عن وظيفة الدين المقاصدية؛ إنما هي: (إخراج المكلف عن داعية هواه؛ حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً).
ثم إن وصف (عبد) أو (عباد)، ولو ورد مجرداً عن الإضافة، لا معنى له إلا بتقدير الإضافة. وهي النسبة إلى الله سبحانه! أي (عبد الله) و (عباد الله). وقد تأتي العبارة صريحة النسبة والإضافة إلى الله، كما سترى إن شاء الله.
وهذا فرق جوهري هام جداً، في إطلاق ألفاظ: (الإنسان)، و (ابن آدم)، و (عبد الله)؛ إذ ينسب في الأول إلى أصله الخِلقي الجبلي، وينسب في الثاني إلى أبيه، وما تحمله هذه النسبة من دلالة على طبيعة (آدم)، بينما يتفرد التعبير الأخير بنسبته إلى (الله)! وكفى بذلك شرفاً ورفعة وجمالاً!
قلت: ولذلك كان وصف (العبودية) في القرآن لا يرد إلا في سياق البشارة، والمحبة, والرضى الإلهي الكريم! وما لم يكن ظاهره من الآيان كذلك فهو ملحق بهذا الأصل في المعنى؛ لأن الكلية الاستقرائية إذا استقرت (كلية) رجع إليها كل جزئي، ولو بدا أنه شاذ عنها، كما هو مقرر في الأصول. وأوضح مثال
لذلك قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}
(البقرة: 186).
إن هذه الآية الكريمة هي عنوان محبة الرب لعباده في القرآن الكريم.. إنها شلال الواردات الخفي، الهامي بالرحمة والمغفرة على قلوب عبادة التائبين، الطارقين باب الله، فقراء محتاجين! ولقد التقط الأستاذ سيد قطب رحمه الله منها لطائف من رَوْح الله فقال: (إضافة العباد إليه، والرد المباشر عليهم منه.. لم يقل: "فقل لهم" : إني قريب.. إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال: قريب! (...) إنها آية عجيبة.. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة والود المؤنس، والرضى المطمئن، والثقة واليقين.. ويعيش منها المؤمن في جناب رضي، وقربى ندية، وملاذ آمين وقرار مكين).