الإيمان بالإنسان بديلا عن الإيمـان بالله ...الهيومـانية Humanism
قام روسو بالتأسيس للإيمان بالإنسان والإنسان فحسب ... وقد اقترح روسو الإرادة العامة أو إرادة المجتمع وأمام هذه الإرادة يتنازل الإنسان عن إرادته الخاصة وبهذا يكون المجتمع هو المُطلق المادي الأوحد في النظام العلماني الإلحادي ومن رحم هذا التصور نستطيع تطبيق الديموقراطية وحُكم الشعب بالشعب حيث لا مُطلق إلا الشعب ولا قِيم إلا قِيم الشعب يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:- ( يدعو روسو إلى إقرار دين طبيعي مادي يقوم على تأليه المجتمع فالمجتمع هو المُطلق العلماني الذي سيحل محل المُطلق اللاهوتي -1- .)
لكن هذا الأمر يحمل في داخله تناقضا عجيبا فالإنسان مُستَوعَب تماما في الطبيعة.. قوانين الطبيعة هي قوانينه .. قِيم الطبيعة هي قِيمه وهذه القِيم تسري عليه كما على سائر الكائنات .. الإنسان ليس أكثر من نمط مادي ذو ثلاثة أبعـاد ..حيوان اجتماعي .. والعقل مادة طبيعية متلقية وبالتالي فإنه في المرحلة التالية سيتنازل الإنسان عن مركزيته فالإنسان من منظور مادي إلحادي ليس هو المركز بل المركز هو الطبيعة المادية وقوانينها وحتمياتها وبالتالي سيحل محل مركزية الإنسان مركزية الطبيعة باعتبارها المُطلق الأول وهذا يعني انهيار المشروع الهيوماني ( مشروع الإيمان بالإنسان ) وبذا يُصفَّى الإنسان على حد تعبير المسيري لحساب الطبيعة وسيتم استيعابه تماما ويسقط في هيمنة المادية الحتمية وقد اختصر رئيس التشيك فاكيلاف هافل كل ذلك في عبارته الرائعة حين قال :- ( حينما أعلنت الإنسانية أنها حاكم العالم الأعلى، في هذه اللحظة نفسها، بدأ العالم يفقد بُعده الإنساني ) فالفلسفة الهيومانية ضحت أول ما ضحت بالإنسان وعادت لإعتبار الطبيعة هي المُطلق وهي المرجع فهي فلسفة ذاتية الهدم وقد نجح هتلر في فك هذه الشفرة بكفاءة غير عادية حينما قال :- ( يجب أن نكون مثل الطبيعة، والطبيعة لا تعرف الرحمة أو الشفقة ) .
وقد تبع في ذلك داروين ونيتشه ودوركايم وفرويد فالدولة العلمانية تُعبر عن القانون الطبيعي وتستمد شرعيتها منه .. وقد آمن هتلر بالطبيعة إيمانا صارما متعصبا .. إيمانا يتسم بالشمولية الكاسحة وبرفض مركزية الإنسان وداخل معامل هتلر النازية كان يتم إحضار التوائم المولودة حديثا ويتم وضع كل منهما في غرفة مستقلة ويتم تعريض أحد التوأمين للتبريد أوالتسخين أو التعذيب بل وحتى الموت وملاحظة الأثار التي تظهر على التوأم الآخر للإفادة من ذلك في علوم الطب ... وكان يتم إبادة الغجر والسلاف واليهود والأقزام وغيرهم في أفران الغاز الهتلرية تعبيرا عن إرادة الشعب الحُرة في استئصـال الأغيـار الغير مفيدين useless eaters وفي 14 يوليو 1933 أصدر النازي قرارا بتعقيم 400 ألف شاب عن طريق تمريرهم على ترددات عالية من أشعة إكس حتى يفقدوا القدرة على الإنجـاب فهؤلاء الشباب كانوا مصابين بأمراض عصابية كثيرة ربمـا تضر الأجنة وكان هتلر يقول إن "أفران الغـاز" والتعقيم ليست سـوى "أدشاش" تُستخدَم من أجل الصحة العامة.. ولذا يصف بعض المؤرخين الفترة الهتلرية على أنها اللحظة النموذجية في تطبيق الإلحاد والعلمانية الشاملة والتفكيكية في أعلى صورها .. وهتلر جاء إلى الحكم بطرق ديموقراطية محترمة وجميع قرارات النازي كانت نابعة من إرادة الشعب ( حُكم الشعب بالشعب ) وتنفيذها كان ديموقراطيا إلى أبعد حد.. ويكفي أن تعرف أن الجنود الألمان كانوا ممنوعون من الإساءة إلى الغجر والسلاف واليهود وهم في طريقهم إلى الحرق في أفران الغـاز لأن هذا يعني شكلا من أشكال الإساءة لحقوق الإنسان وخدشا لكرامته .. وقد عوقب أحد الضباط الألمان لأنه كان يحيط أسر الضحايا علمـا بإعدام أقاربهم على كارت بوستال مفتوح بدلا من ظرف مغلق .
والبحث عن السعادة الإنسانية على الأرض من منظور إلحادي هو شكل من أشكال الغرور الإنساني وهو يعني القول بمركزية الإنسان وأن له مكانا خاصا في الكون وبداهة لا يمكن القول بوجود غائية إنسانية مستقلة عن الغائية الطبيعية أو المادية .
ولذا كان علم الأخلاق الإلحادي المجتمعي ليس أكثر من نوع من أخلاق الأنانية المسنيرة وماذا يمكن أن يفعل العقل أو المركزية المادية مع النظريات التي تنكر المساواة بين البشر .. فالقتل الرحيم مثلا والإعقام اليوجيني والإخصاب الصناعي والإجهاض كلها امور عقلية ومنطقية تماما لا توجد حجج علمية ضدها ولا يأتي الإيمان بمركزية الإنسان وقيمته وسموه إلا بالإيمان بمُطلق أعلى يتجاوز المادة فالمساواة بين البشر هي مسألة دينية بحتة فإذا لم يكن الله موجودا فالناس بجلاء وبلا أمل غير متساوين وتأسيسا على الدين فقط يستطيع الضعفاء المطالبة بالمساواة .
---------------
المراجع للإستزادة :- العلمانية الجزئية العلمانية الشاملة د. عبد الوهاب المسيري دار الشروق طبعة 2002
1- فكر حركة الإستنارة وتناقضاته د. عبد الوهاب المسيري ص26