التفسير التحليلي لآية الكرسي (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ )


الشيخ/ أحمد الشبكي

 هذه الجملة تقرير لكمال حياته تعالى وقيوميته ، لأن السنة والنوم إنما يعرضان للمخلوق ، الذي يعتريه الضعف والعجز والزوال ، ولايعرضان لذي العظمة والكبرياء والجلال ، ولأن النائم لا يستطيع حفظ شئ حيال نومه ، والنوم تغير وانتقال من حال إلى حال والله   لايتغير لأن التغير من صفات الحوادث والله تعالى

ليس كمثله شئ وهو السميع البصير 

{  سورة الشورى :11    }   

روى الإمام مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده و ابن ماجة في السنن والبغوى في تفسيره

عن أبى موسى الأشعرى   قال قام فينا رسول الله  بخمس كلمات فقال إن الله لا ينام ولا ينبغى له أن ينام ولكنه يخفض القسط ويرفع ،  إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل  النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه }

[1]

  والسِّنة أصلها من الفعل وسن يسن ، حذفت الفاء من المضارع ومن المصدر كما يقال  : عدة  - بكسر العين ، والسنة : النعاس ، والنعاس ما يتقدم النوم من الفتور وانطباق العين فإذا صار في القلب صار نوما 

قال الشاعر :  وسنان أقصده النعاس فرنّقت          في عينه سنة وليس بنائم [2]

أما النوم فقيل هو‍‌" حال يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوــبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا" [3]، وقيل هو" فتور يعترى أعصاب الدماغ من تعب أعمال الأعصاب ومن تصاعد الأبخرة البدنية الناشئة عن الهضم والعمل العصببى فيشتد عند مغيب الشمس ومجيىء الظلمة ، فيطلب الدماغ و الجهاز العصبى الذى يديره الدماغ استراحة طبيعية فيغيب الحس شيئاً فشيئاً وتثقل حركة الأعضاء ، ثم يغيب الحس إلى أن تسترجع الأعصاب نشاطها فتكون اليقظة " [4]وقيل هو الغشية  الثقيلة التى تهجم على القلب فتقطعه عن معرفة الأمور[5]

وفي الميزان للطباطبائى  :  " النوم هو الركود الذى يأخذ الحيوان لعوامل طبيعية تحدث في بدنه" [6]

 وهذه الأقوال التى ذكرها المفسرون مرجعها إلى ما ذكره الفلاسفة والأطباء ،فهذا أبقراط يرى أن النوم ينشأ عن انسحاب الدم والدفء إلى المناطق الداخلية من الجسم  ،

وهذا الفيلسوف اليونانى أرسطو يرجع السبب المباشر في النوم إلى الطعام الذى نتناوله والذى يطلق أبخرة وأدخنة في العروق ولقد أضاف الإسكندر الافروديس  إلى ما ذكره أرسطو : أن التعب الذى يحل بالجسم

يؤدي إلى أن يجف الجسم ويفقده حرارته وبذلك ينتهى الأمر إلى النوم  بينما يرى الكسندرفون همبولت :  أن النوم ينشأ عن نقص في الأكسجين ، لكن العالم الألمانى فلهلم برايير : يرى أن التعب يخلق مواد كيميائية في جسم الإنسان من شأنها أن تمتص الأكسجين من الجسم الأمر الذى يتسبب في حرمان المخ من الأكسجين اللازم له من أجل أداء أعماله و نشاطه  [7]    

هذا ورغم التقدم العلمى الهائل والإمكانيات العلمية العظيمة والمراكز والمختبرات العلمية المنتشرة في أرجاء العالم والأبحاث والدراسات والتجارب  عن النوم رغم هذا كله فمازال  سرًا غامضًا على البشرية وهى في أوج تقدمها وازدهارها العلمي ، إن تلك الدراسات والأبحاث التي تنفق عليها الملايين ويقضي العلماء فيها السنين والسنين ويحصلون من خلالها على الدرجات العلمية والأوسمة والجوائز العلمية   ـ لا تتعدى كونها مجرد تسجيل لظواهر وملاحظات تحدث قبل الاستعداد للنوم وأثناء النوم وعند الاستيقاظ منه ، كما أن تلك الدراسات والبحوث متعلقة بما يتصل بالنوم من أمور حسية ، أما الروح فلا علم لهم بها ، ومن هنا فإن النوم إلى الآن وحتى يرث الله الأرض ومن عليها سيظل سرا من أسرار الله تعالى في هذا الوجود .

     كما أن الروح سر من الأسرار التي لا نـعلمها ولا سبيل لنا إلى معرفة حقيقتها ،

وصدق المولى  إذ يقول :- وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً

[سورة الإسراء :85 ]

وقال جل وعلا : اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

{ سورة الزمر:42}

وقال سبحانه :  وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ  وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ

   [23: سورة الروم ]

فالنوم آية من آيات الله تدل على قدرته ، ونعمة من نعمه تدل على فضله ورحمته ، وسر من أسراره في خليقته يدل على سعة علمه وبالغ حكمته  

فإن قيل : ما السر في تقديم السنة على النوم مع أن الترقي في النفي من الأقوى إلى الأضعف ومن الأكثر إلى الأقل ، كما نقول لا يقدر فلان على ضرب خمسة رجال ولا واحدا ، كما أن الترقي في الإثبات يكون من الأقل إلى الأكثر ومن الأضعف الى الأقوى ؟

قلنا للمفسرين في ذلك أجوبة متنوعة :-

     قال بعضهم :  إنما قدم السنة على النوم اعتبارا للترتيب الزمني لأن السنة تسبق النوم[8]

وقال الرازي : { تقدير الآية { لا تأخذه سنة  فضلا عن أن يأخذه النوم } [9]

     وقال الإمام البقاعي : { لما عبر بالأخذ الذي هو بمعنى القهر والغلبة وجب تقديم السنة كما لو قيل فلان لا يغلبه أمير ولا سلطان    [10]  

وفي عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ { … وإنما جمع بين نفييهما  لأنه لا يلزم من نفي أحدهما نفي الآخر ، إذ يتصور مجيء النوم دفعة من غير مبادئ الوسن ، ومجىء الوسن دون النوم فلذلك نفي كل واحد منهما على حدته بدليل تكرير  لا ) }[11]

      وقال الشيخ محمد عبده : { إن ما ذكر في النظم الكريم ترق في نفي هذا النقض ، ومن قال بعدم الترقي فقد غفل عن معنى الأخذ وهو الغلبة والاستيلاء ، ومن لا تغلبه السنة فقد يغلبه النوم لأنه أقوى ، فذكر النوم بعد السنة ترق من نفي الأضعف إلى نفي الأقوى }[12]

     و{ لا } في قوله تعالى { ولا نوم } لتأكيد النفي ، ولبيان انتفاء كل واحد منهما ولو لم تذكر لاحتمل نفيهما بقيد الاجتماع ، وبناء عليه فلا يلزم منه نفي كل واحد منهما على حدته ، ولذلك تقول : ما قام زيد وعمرو بل أحدهما ، ولا تقول : ما قام زيد ولا عمرو بل أحدهما [13]

موعظة بليغة  *

      تعلق قلب رجل بامرأة بدوية وقد ذهبت ذات ليلة إلى حاجة لها فتبعها الرجل فلما خلا بها في البادية والناس نيام راودها عن نفسها ، فقالت له انظر أنام الناس جميعاً ففرح الرجل وظن أنها قد أجابته إلى ما ابتغاه فقام وطاف حول مضارب الحى فإذا الناس نيام فرجع مسروراً وأخبرها بخلو المكان إلا من النيام ، فقالت ما تقول في الله تبارك وتعالى ؟ أنائم هو في هذه الساعة ؟ قال الرجل إن الله لاينام ولا تأخذه سنة ، فقالت المرأة إن الذى لم ينم ولا ينام ويرانا وإن كان الخلق لا يرون فذلك أولى أن نخشاه ، فاتعظ الرجل وتركها وتاب خوفاً من الله تعالى : ولما مات رئى في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال غفر  لى لخوفي منه وتوبتى إليه .

وصدق من قال:  

  وإذا خلوت بريبة في ظلمة               والنفس داعية إلا العصيان  

       فاستحي من نظر الإله وقل لها          إن الذي خلق الظلام يراني

المراجع

  1. الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه  عن أبى موسى الأشعري  ك الإيمان –باب ما جاء في رؤية الله (  صحيح مسلم بشرح النووي 3/ 14،15 حديث  293 ،294 وروه ابن ماجة في السنن –المقدمة  1/70 حديث 195-ورواه الإمام أحمد في مسنده 4/400- ورواه الإمام  أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة حديث 1048 –2/461  والبغوي في شرح السنة 1/ 173 وابن ماجة في السنن المقدمة 13 –ورواه الإمام أحمد في مسنده 4/ 401،405 والطيالسي في مسنده حديث 491 ص 67 0
  2.  البيت للشاعر عدي بن الرقاع العاملي والبيت الذي سبقه هو :-وكأنها بين النساء أعارها              عينيه أحور من جآذر جاسم والحور صفاء سواد العين و بياض بياضها ، والجآذر جمع جؤذر وهو ولد الظبية ، وجاسم موضع معين ، ووسنان نعت أحور وأقصده النعاس أي أصابه النعاس ، وهو ما يتقدم النوم من الفتور والغفلات  ، ورنق الماء : كدر   وترنق تكدر ورنق الطائر إذا وقف في الهواء صافا جناحيه يريد الوقوع فالمعنى وقفت في عينيه سنة ويجوز رنقت عينيه سنة أي كدرتها وهذا يشعر بتشبيه العين بالماء في شدة الصفاء ، والسنة من وسن فهو وسنان وسبب النوم ريح يقوم في أغشية الدماغ فإذا وصلت إلى العين فترت ، وهذا هو الوسن وإذا وصل إلى القلب وتمكن منه زال إدراك الحواس وهذا هو النوم ولذلك نفاه مع إثبات السنة .يراجع مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف للشيخ محمد عليان المرزوقي ـ بذيل الكشاف 1/300 وآمالي المرتضى 2/151
  3. أنوار التنزيل وأسرار التأويل  للبيضاوي                     
  4.  التحرير و التنوير لابن عاشور   1/ 19
  5. الوسيط في تفسير القرآن المجيد للإمام الواحدى 1/364
  6.  الميزان للطباطبائى  2 / 19
  7. -يراجع كتاب أسرار النوم تأليف الكسندر بوريلى ترجمة د/أحمد عبد العزيز سلامة سلسلة عالم المعرفة الكويت عدد  163 ولقد تعرض المؤلف لهذا الكتاب إلى التجارب  والملاحظات و الاكتشافات المتصلة بالنوم إلا أنها مجرد بيان لظواهر وانطباعات تصاحب النوم ولقد يبين في خاتمة كتابه أن العلم  لايزال إلى الآن عاجز عن تحليل النوم أو تفسيره 0
  8. اختار هذا الرأي جمع من المفسرين من بينهم الشوكاني والبروسوي  وغيرهم   يراجع روح المعاني 3/13 ، روح البيان 1/400 ، فتح القدير 1/270 ، وفتح البيان في مقاصد القرآن 1/90
  9.  مفاتيح الغيب للرازي 7/8 وحاشية الجمل 1/206 وروح المعاني 3/13
  10.  نظم الدرر للبقاعي 1/496
  11. عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ للشيخ أحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي 4/360
  12. تفسير المنار 3  / 25    وكلام الشيخ محمد عبده قريب مما ذكره الإمام البقاعي ونحو ذلك مما ذكره الطباطبا ئى في تفسيره   2/20 وماذكره الشهاب في حاشيته على تفسير البيضاوي 2/334 واختار هذا الرأي الصاوي في حاشيته على الجلالين   /164 وأورده الألوسي في روح المعاني 3/13
  13.  يراجع الفريد في إعراب القرآن المجيد لحسين بن أبي العز الهمدانى ت 643هـ  1/495 ، 496  


السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ التفسير التحليلي لآية الكرسي (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ )

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day