التوحيد وفضله
خلق الله عباده، وسخَّر لهم ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليهم نِعَمه ظاهرةً وباطنة، ليُفرِدوه - سبحانه - بالعبادة، فبقِي الناس بعد آدم عشرة قرون يعبدون اللهَ وحده، فزيَّن الشيطان لبعض خلقه عبادةَ الأصنام فعبَدوها، فأرسل الله الرسل وأنزل معهم الكتب ليرجع الناس إلى عبادة الله وحده، ومن رأفته بخلقه جعل فِطَرهم موافقةً لما خلقهم له، فكل مولودٍ يُولَد على فطرة إفراد الله بالعبادة، وأنه المعبود وحده دون من سواه، قال - عز وجل -: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30].
والشيطان يسعى لإفساد فِطَر الخلق ليحرم العبادَ من رضا ربهم عنهم، ومن النعيم المُقيم المُعَدّ لهم في جنات عدن، قال - عليه الصلاة والسلام -: «قال الله - عز وجل -: إني خلقتُ عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالَتْهم عن دينهم، وحرَّمَت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتهم أن يُشرِكوا بي ما لم أُنزِّل به سلطانًا»؛ رواه مسلم.
يدعو إبليسُ الخلقَ إلى الوقوع في أعظم ذنبٍ يُعصَى الله به، سُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نِدًّا وهو خَلَقَك»؛ متفق عليه.
فعَبَد كثيرٌ من الناس غير الله، كما قال - سبحانه -: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [هود: 17].
ومن آثار عدم الإيمان: أن كل عملٍ يُعمل - وإن كان صالحًا - فإنه لا يُثاب عليه لفُقدان أصل الدين، قالت عائشة - رضي الله عنها -: يا رسول الله! إن ابن جُدعان كان في الجاهلية يصِلُ الرَّحِمَ، ويُطعِم المسكين، فهل ذاك نافعُه؟ قال: «لا ينفعه، إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين»؛ رواه مسلم.
وهذا الذنب سببٌ لسخط الله وحلول الذِّلَّة والمسكنة لمن فعله، قال - عز وجل -: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الأعراف: 152].
وصاحبُه يتقلَّب في كروبٍ وهمومٍ وأحزان، قال - جل شأنُه -: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام: 125].
ويمنعه من دخول الجنة ويُخلِّده في النار، قال - جل شأنُه -: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة: 72].
ولئلا يقع العباد في شَرَك الشيطان ويُسخِطوا ربهم ويُخلَّدوا في النار أرسل الله لكل أمةٍ رسولاً يُحذِّرهم من دعوة الشيطان، ويأمرهم بعبادة الرحمن، وأنزل الكتب، ودعا إليه في أكثر آيات القرآن، وجميع ما في القرآن دالٌّ عليه، وأول أمرٍ في كتاب الله هو الأمر به، قال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة: 21]؛ أي: وحِّدوا ربكم، وأول نهيٍ يتلوه قارئُ القرآن هو النهي عن ضِدِّه، فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22].
وأعظم سورةٍ في كتاب الله ما اشتملت على التوحيد، سورة الإخلاص، وأعظم آيةٍ في كتاب الله ما اشتملت على وحدانيته: آية الكرسي، ومَكَثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد بعثته يدعو إلى توحيد الله عشر سنين لا يدعو إلى شيءٍ سواه، ثم تتابَعَت عليه الشرائع، فكان يدعو إليها مع التوحيد إلى مماته، وكان يقول في صباحه ومسائه: «أصبحنا على فطرة الإسلام، وعلى كلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد، وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين»؛ رواه أحمد.
وكان يستفتح يومه بالتوحيد، فيقرأ في ركعتي الفجر بسورتي الكافرون والإخلاص، ويختمه به، فيقرأ في الشفع والوِتر بالكافرون والإخلاص، ووصَّى به أمَّتَه، أتى أعرابيٌّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: دُلَّني على عملٍ إذا عمِلتُه دخلتُ الجنة؟ قال: «تعبُد اللهَ ولا تُشرِك به شيئًا، وتُقيم الصلاة المكتوبة، وتُؤدِّي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان»؛ متفق عليه.
وكان يأمر أصحابه أن يُبايعوه على عبادة الله وحده، قال عوف بن مالك - رضي الله عنه -: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: «ألا تُبايِعون رسول الله؟». قلنا: فعلى ما نُبايعُك؟ قال: «على أن تعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس».
وإذا بعث الدعاة إلى الأمصار يأمرهم أن يبدأوا بالدعوة إلى التوحيد، بعثَ معاذًا إلى اليمن وقال له: «إن تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أولَ ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله»؛ متفق عليه.
وإذا جاءه وفدٌ من الوفود علَّمَهم التوحيد، أتاه وفدُ عبد القيس فقال لهم: «ألا تدرون ما الإيمان بالله وحده؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ..» الحديث؛ رواه البخاري.
وخاف الرسلُ على أبنائهم اتباع الشيطان بعبادة الأصنام، قال الخليل - عليه السلام -: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم: 35].
والنبي - صلى الله عليه وسلم - خافه على أمته، فقال: «أخوفُ ما أخاف على أمتي: الشرك الأصغر»، فسُئِل عنه، فقال: «الرياء»؛ رواه أحمد.
وهو من حق الله على العباد، قال - عليه الصلاة والسلام -: «يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد؟». قال: الله ورسوله أعلم، قال: «حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا»؛ متفق عليه.
ويُقرِّب العبدَ من الجنة ويُباعده من النار، جاء أعرابيٌّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أخبرني بما يُقرِّبني من الجنة ويُباعدني من النار، فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه، ثم قال: «لقد وُفِّق - أو هُدِي»، قال: «كيف قلتَ؟»، قال: فأعاد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تعبدُ الله ولا تُشركُ به شيئًا، وتُقيم الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتصِل الرحِم»؛ متفق عليه.
ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا به، قال - عليه الصلاة والسلام -: «قولوا: لا إله إلا الله تُفلِحوا»؛ رواه أحمد.
ومن كانت خاتِمته عليه دخل الجنة، قال - عليه الصلاة والسلام -: «من كان آخرَ كلامه: لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة»؛ رواه مسلم.
ومن مات عليه دخل الجنة ونجا من النار، قال - عليه الصلاة والسلام -: «من لقِيَ الله لا يُشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقِيَه يُشرك به دخل النار»؛ رواه مسلم.
وأعمال المُوحِّدين تتفاضلُ بتفاضُل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وأعزُّ ما يملك المسلم هو توحيده لربه، وأهم ما عليه حِفاظه عليه من البُطلان أو القوادح أو النواقص الواردة عليه، قال ابن القيم - رحمه الله -: "التوحيد ألطف شيءٍ وأنزهُه وأنظفه وأصفاه، فأدنى شيءٍ يخدِشُه ويُدنِّسُه ويُؤثِّر فيه، فهو كأبيض ثوبٍ يُؤثِّر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جدًّا أدنى شيءٍ يُؤثِّر فيها".
، والله - عز وجل - أوحي إلى رسله إن وقع منهم شركٌ حبِطَت أعمالهم؛ فكيف بغيرهم؟ قال - جل شأنُه -: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65].
ولذا خاف الخليل - عليه السلام - من الشرك، فدعا ربه وهو يبني الكعبة: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم: 35]، وإذا كان الخليل - عليه السلام - يخشى من الشرك فغيره أولى.
وتعليم الأبناء أصل دينهم وسؤالهم الدائم عنه هو نهج الرسل، يعقوب - عليه السلام - وهو في نزع الروح يسأل أبناءه عن توحيدهم أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 133].
ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يسأل جاريةً صغيرةً: «أين الله؟» قالت: في السماء؛ رواه مسلم.
ومُدارسة كتب الاعتقاد السلمية، ومُلازمة حِلَق أهل العلم من أسباب الثبات على الدين، قال - عليه الصلاة والسلام -: «تركت فيكم ما إن تمسكتُم به لن تضِلُّوا: كتاب الله وسنتي»؛ رواه مسلم.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: "أهم ما عليك: معرفة التوحيد قبل معرفة العبادات كلها حتى الصلاة".
والدعاء على الثبات على الدين سبيلُ الأنبياء، قال يوسف - عليه السلام -: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101].
وتعظيم توحيد الخالق وإدراك أهميته والبُعد عن الشبهات من أسباب الهدى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد: 19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.