العبادة سلوك وجداني جميل


الشيخ /فريد الأنصاري

أما الركن الثالث: فهو العبادة. العبادة بما هي سلوك وجداني جميل، يمارسه الإنسان في حركته الروحية السائرة نحو رب العالمين، الله ذي الجلال والجمال. وهذا من الوضوح بمكان حيث إن النصوص التي ذكرت قبل كافية في إثابته وبيانه. ذلك أنه هو الركن الغاني من خلق الجمال نفسه! بل هو غاية الغايات من الخلق كله، وما به من حقائق الزينة والحُسْنِ المادية والمعنوية على السواء.

 

إن إشباع الحاجات الجمالية لدى الإنسان لو تأملتها تجدها لا تخرج عن معنى حاجة الإنسان الفطرية إلى التعبد والسلوك الروحي! ولذلك فإن الإنسان الغربي إنما يمارس بإبداعه الجمالي ضرباً من العبادة الخفية أو الظاهرة، التي يوجهها نحو الطبيعة حيناً، ونحو ذاته أحياناً أخرى. إنه بدل أن يسلك بإنتاجه الجمالي مسلك التعبد لله الواحد الأحد،مصدر الجمال الحق، وغايته المطلقة في الوجود كله؛ ينحرف بها إلى إشباع شهواته أو أهوائه. ثم يمارس نوعاً من الوثنية المعنوية أو المادية. ولذلك كانت فنونه الجميلة تميل إلى التجسيم والتشكيل.

محكومة بمثل قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}

(الأعراف: 148).

وقوله سبحانه: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}

(طه: 87-88).

 

نعم إنه لمن السذاجة أن نقول بحصول (الوثنية التقليدية) في الجمالية الغربية، وإنما المقصود حصولها على المستوى النفسي! إن الغرب يفرغ طاقته الجمالية في الأشكال والألوان! تماماً كما فرغ بنو إسرائيل من قبل زينتهم وحليهم في صياغة التمثال، تلك المحاولة الباطلة لتجسيد الإله! فكانت فيهم الوثنية البشعة التي سجلها القرآن!

 

فالفنان عندما يبدع لوحته أو سمفونيته أو قصيدته الأخيرة، يخر لها راكعاً حيناً، بما يحدث في نفسه من عُجْبٍ نرجسي وكبرياء، أو يتلوها على الناس كما تتلى التراتيل في المحاريب والمعابد! أو يعرضها عليهم كما يعرض (الكتاب المقدس)! فتتمجد ذات الإنسان بالباطل؛ بدل تمجيد ذات الله الخالق الحق للجمال! وإذن؛ فعِوَضَ أن تقوده مواجيده إلى عبادة الرحمن الذي أفاض على هذا العالم بأوصاف الجلال والجمال؛ يتجه إلى تمجيد ذاته، وإلى تفضيل التمثال على الطبيعة! وما شابه ذلك من معاني التمرد على الله! وتلك هي النتيجة التي آلت إليها الحال بالذات مع الفلسفة الوضعية والوجودية، حتى آخر صيحات الحداثة وما بعد الحداثة!

 

من هنا إذن أطَّرَ الإسلامُ الجماليةَ بمفهوم العبادة؛ حتى يصح الاتجاه في مسيرة الإبداع، ويستبصر الفنان بتواضعه التعبدي مصدرَ الجمال الحق؛ فيكون إبداعه على ذلك الوزان، وتتجرد مواجيده لتلك الغاية. وتلك هي (جمالية التوحيد). عسى أن يستقيم سير البشرية نحو نبع النور العظيم.. النور الذي هو

{الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ}

(النور: 35).

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ العبادة سلوك وجداني جميل

  • أحيانا أحب العبادة

    محاسن الشرهان

    س: أحيانًا أحب العبادة وأخضع الجوارح وتكون العبادة كفعل الصلوات وغيره، فهل الآن أَسمَّى عابد بفعلي لبعض العبادات

    16/01/2020 1931
  • ماهي العبادة ؟

    فريق عمل الموقع

    السؤال الرابع :  ماهي العبادة ؟ الإجابة :  العبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال

    10/02/2018 8133
  • لا تنكر الجميل!

    عبد الله بن مشبب بن مسفر القحطاني

    والمؤمن تراه جميلاً باطناً وظاهراً؛ لأنه يتقرب بهذا الجمال إلى الله، ولأن الله حث على جميل الأقوال والأخلاق

    17/12/2022 724
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day